[صورتان لزمن واحد؟]
ـ[ابن فرات]ــــــــ[23 - 04 - 10, 01:44 ص]ـ
من المفاهيم الخاطئة التي تمرُّ على آذننا صباح مساء وربما مرت على الكثيرين مرور تسليم وإقرار، وحقها في الحقيقة النقض والإنكار، عبارةٌ لم يفتأ دعاة التنوير والتحرر في بلداننا الإسلامية يرددونها، ألا وهي (الخوف من العودة الى القرون الوسطى)!
بداية يجب أن نعلم أنْ هذا المصطلح وافد غريب عن بيئتنا، فقد نما وترعرع في كنف أوربا بداية من عصر النهضة وما بعده، وتفسيره في عرف الأوربيين عصر سيطرة الكنيسة باسم الدين لمدة عشرة قرون تقريباً على العقول والعلوم والثروات فاتَّسمت هذه العصور بالظلام والجهل المطيق.
وهذه العبارة وما شابهها إنما تطلق عندنا كلما يتنادى الغيارى من المسلمين الى وجوب تقديم ما تقرره الشريعة في أمر ما على ما يقرره سواها، فتراهم حيئذ يرعدون ويبرقون ويحذرون من عصور الظلام التي سوف تحل على أمتنا وأوطاننا، تماماً كما يحذر كل أوربي من ذلك عندما تطالب بعض الجماعات الدينية بسن قانون يلائم ما تعتقده تلك الجماعات.
والحقيقة أنه لا وجه للشبه بيننا وبينهم، فالقرون الوسطى بالنسبة لنا قرون نور وحضارة وتقدم ورقي، إذ كنا نحكم العالم أجمعه إما فعلياً أو بنفوذنا، ونفس القرون كانت قرون جهل وتخلف وقمع واستبداد وظلام حالكٍ بالنسبة لأوربا التي شذت آنذاك وتأخرت عن ركب التحضر بقمعها وحجرها على العقول، وتزييفها للدين الصحيح الذي جاء به المسيح عليه السلام.
كنا أمة تحكم عالماً لم تزل الشمس ترتع في سماءه مشرقة حية من أطراف الصين الى آخر حجر في أسبانيا، هناك كان للحضارة والتقدم والازدهار والعلم مساحات رحبة، وتربة خصبة مهيئة تُسقى بماء واحد، وسوق رائجة شجعتها الأحكام كإقرأ والحُكام كالناصر وغيره.
فشتان شتان بين قروننا وقرونهم، وسيدرك الفرق من تأمَّل صورة القرون الوسطى لأوربا ولأمتنا ليستيقن مدى البون الشاسع والإختلاف الجذري بيننا وبينهم في تلك الفترة، ومن هذه الصور المشرقة وهي كثيرة جداً:
ما جاء في كتاب نفح الطيب أنَّ الحاكم في الأندلس كان يسعِّر الأشياء الضرورية، لا سيما الخبز واللحم ويأمر البيَّاعين بأن يضعوا عليها أوراقاً بسعرها، ثم يبعث المحتسب وهو رجل يرسل من قِبَل الحاكم لاختبار البيّاع، فإن باعه بأكثر من السعر الرسمي استدعاه وعاقبه فإن عاد أغلق دكَّانه!
هذه الأوامر لم تكن صادرة عن إحدى بلديات هذا العصر، إنما هي أوامر صدرت قبل ما يقرب من 700 سنة في مايسمى القرون الوسطى، أيامها كانت قرطبة معبدة الشوارع، ويصل الماء إلى جميع دورها عبر شبكة قنوات مائية، وإذا حل المساء تُضاء طرقها بأنوارٍ نصبت على حافتي الشارع، كما أنَّ بها أكبر مكتبة في العالم، هذا في الوقت الذي كانت فيه لندن ممتلئة بالجراثيم والأوبئة والتشرد وفنون الشعوذة!
وكذلك لا يفوتنا ذكر رسالة الملك جورج الثاني الى هشام الثالث، وغيرها من النماذج التي تعبق برائحة الحضارة المشرقة مما لا نحتاج نحن لإبرازها فقد كفانا بعض منصفين الغرب مؤونة البحث والتنقيب عن صور حضارتنا المشرقة بما سطَّروه في كتبهم وتعليقاتهم، والحق ما شهدت به الخصوم لاسيما ما ذكره الإنجليزي جون دوانبورت والمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، وغيرهم الكثير.
فمنا بن خلدون أول من أرسى قواعد علم الإجتماع، ومنا علي بن شاطر أول من أبدع ساعة ميكانيكية، ومنا الجلدكي أول أبدع فكرة استخدام الكمامات في المخابر، ومنا ابن الدريهم أول من أبدع علم التعمية والتشفير، ومنا ابن النفيس أول من شرح دوران الدم الرئوي، ومنا ابن العوام أول من ابتكر طريقة الري بالتنقيط، ومنا ابن صاعد أول من ابتكر قلم حبر جاف، ومنا ومنا ومنا ومنا ......
أيام كانت قصور المُلك عاليةً .. كان الفرنجُ الى الغاباتِ آوينا
و حينَ كنا نجرُّ الخزَّ أرديةً .. كانوا يسيرون في الأسواقِ عارينا
¥