ولا يخفى أن من أعظم الحوافز والدوافع للدعوات أن يقصد الرجل بها استرداد ملك أبيه أو أمارته أو رئاسته, أو مشيخته, والأمثلة في التاريخ كثيرة, وفي الزمان الحاضر أيضاً, وهذا من طبيعة البشر التي لا يكادون ينفكون عنها في كل زمان ومكان, حتى أهل الثروة إذا ورثوها عن آبائهم يرون أنفسهم أهلاً لها, وإذا رأوا رجلاً غنياً حديث الثروة احتقروه وذموه واستكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً, حتى أن الأقرع, والأبرص, الواردين في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري حين جاء الملك ليختبر شكرهما وذكرهما بما كانا عليه من القرع, والبرص مع الفقر, قال كل واحد منهما كاذباً إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر فعاقبهما الله وردهما إلى ما كانا عليه من العاهة والفقر, وهذا يدل على دقة نظر, وعلم بأحوال البشر.
البرهان الرابع: قوله فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفائهم؟ قال أبو سفيان بل ضعفائهم, قال هرقل وسألتك أشراف الناس أتبعوه أم ضعفائهم, فذكرت أن ضعفائهم اتبعوه وهم أتباع الرسل.
قال محمد تقي الدين كاتب هذا المقال كل من درس الدعوات والمبادئ يرى أن الطبقة الفقيرة تكون مهضومة الحق, مظلومة, مستعبدة, موطوءة بالأقدام, فهم يتربصون الدوائر بظالميهم ومستعبديهم ليتخلصوا من نير ظلمهم, ويفكوا من أسرهم, فمتى رأوا دعوة إلى تأسيس حكم جديد بادروا إلى الأستجابة راجين أن يكون خلاصهم على يد صاحب تلك الدعوة, وبرهان هذا في كتاب الله عز وجل, قال تعالى في سورة هود رقم 27: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}.
وقال تعالى في سورة الأنعام رقم 52: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: قال الإمام أحمد بسنده إلى ابن مسعود قال: (مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب, وبلال, وعمار, وخباب, وغيرهم من ضعفاء المسلمين, وفيه فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك, أهولاء الذي منّ الله عليهم من بيننا ونحن نصير تبعاً لهؤلاء, أطردهم فلعلك أن طردتهم نتبعك فنزلت الآية) وهذا المعنى مذكور في مواضع من كتاب الله سبحانه. أ هـ. ودعاة الشيوعية في هذا الزمان ينادونهم بلغاتهم العجمية بما معناه: أيها المعدمون في جميع البلدان اتحدوا, يعنون بذلك أن المعدمين أكثر عداداً من الموسرين, والموسرون يستغلون جهودهم ويعيشون على حسابهم عيشة ترف, وبذخ, مع أن هؤلاء المعدمين لو أتحدت كلمتهم وامتنعوا من العمل لساءت حال الموسرين وصار الأمر بيد المعدمين يتصرفون في الأموال التي هي ثمرة جهودهم ولكن شتان ما بين دعوة الرسل, ودعوة الشيوعيين, فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام يعدلون بين الناس ويأخذون للضعيف حقه من القوي, ولكنهم يتركون أمر الغنى والفقر بيد الله, يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر, فدعوتهم تسعد الأغنياء والفقراء ولا تحاول تغيير سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً. أ هـ.
البرهان الخامس: قال هرقل لأبي سفيان أيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان: بل يزيدون, قال هرقل: وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. أ هـ. أقول كل دعوة كتب لها النجاح, فإن اتباعها يزيدون ولا ينقصون, ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان, وذلك أن المستجيبين للدعوة تتحسن أحوالهم, وأخلاقهم فيراهم نظراؤهم من الأشقياء فيرغبون أن يصيروا مثلهم وبذلك تنتشر الدعوة وتضطرد الزيادة!. أ هـ.
¥