البرهان العاشر: قال هرقل لأبي سفيان ماذا يأمركم, قال يقول أعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آبائكم, ويأمرنا بالصلاة, والصدق والعفاف والصلة, قال هرقل وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يامركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف, فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. أ هـ.
عرف هرقل بعلمه وعقله زيادة على ما تقدم من البراهين أن الذي يأمر بهذه الأمور وهو متصف بتلك الصفات هو صادق فيما أدعاه من النبوة والرسالة.
والأمور المذكورة هنا ستة أمور:
أولها عبادة الله وحده لا شريك له فلا يصلح دين ولا دنيا إلا بجعل العبادة خالصة لله وحده لا يعبد معه أحد, لا ملك مقرب, ولا نبي مرسل, ولا صالح ولا طالح, وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل يوضح هذه الأمور كل التوضيح فإنه قال فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى). فوصف نفسه بالعبودية لله التي هي أعلا منزلة عند رسل الله والرسالة التي كلفهم بها, وجعل في قبولها سعادة البشر, ووصف هرقل بعظيم الروم أي كبيرهم وسيدهم, ثم قال على من اتبع الهدى وهذا أنصاف وحزم, والسلام هو السلامة وهي لا تكون إلا لمن اتبع الهدى, وهرقل يزعم أنه يتبع الهدى ولا يكون متبعاً للهدى حتى يؤمن بجميع رسل الله ومنهم خاتم النبيين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن آمن به وبمن قبله فله السلامة وإلا فلا سلامة له, وقوله أسلم تسلم من جوامع الكلم في غاية البلاغة وهو مبين للذي قبله ومؤكد له فلا يسلم من عذاب الله إلا من أسلم لله وآمن بما جاءت به رسله كلهم, ويؤتك الله أجرك مرتين أجر الإيمان بعيسى, وأجر الإيمان بمحمد, فإن توليت أي أعرضت عن قبول دعوة الإسلام فإن عليك أثمك وأثم الأريسيين أي الفلاحين أتباعك, ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أصل دعوته وأساسها وهو توحيد الله تعالى: يا أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى تعالوا إلى كلمة أي أقبلوا إلى كلمة مستوية بيننا وبينكم ليس فيها تحيز لجانبنا ولا جانبكم وهي كلمة لا إله إلا الله ومعناها أن نعبد الله مخلصين له الدين, ولا نشرك به شيئاً كيفما كان ذلك الشيء, ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً آلهة, من دون الله كما فعلتم أنتم معشر النصارى فإنكم أتخذتم عيسى وأمه إلهين من دون الله, ثم اتخذتم غيرهما من رهبانكم آلهة من دون الله فإن تولوا أي أعرضوا فقولوا أيها المسلمون لهم اشهدوا بأنّا مسلمون موحدون لا نعبد إلا الله ونؤمن بكل ما جاء به رسل الله من آدم إلى محمد لا نفرق بين أحد منهم, وهذا هو الدين القيم, والصراط المستقيم.
الأمر الثاني ترك ما كان يعبده آبائهم وهو يقتضي ترك الشرك جملة وتفصيلاً, فإن من عبد الله وعبد معه غيره ولو شيئاً قليلاً لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً, قال تعالى يخاطب سيد خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم في سورة الزمر رقم 65: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وإذا تأملنا هذا الخطاب وشددته علمنا أنه موجه إلينا لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الذنوب كلها والأدلة المحذرة من الشرك كثيرة في كتاب الله وسنة رسوله.
الأمر الثالث الصلاة وهي بعد التوحيد أعظم الفرائض وأنفعها, كتب عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إلى عماله يقول أن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حافظ عليها كان لما سواها أحفظ ومن ضيعها كان لما سواها أضيع. أ هـ.
ومن المعلوم أن العامل مكلف بحفظ الأمن وإقامة العدل بين الناس وأخذ الزكاة والخراج وإقامة الحدود, والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتنفيذ كل ما أمر الله به ورسوله من الشريعة الغراء وقد علمنا من كلام عمر أن صلاح الدين والدنيا يتوقفان على المحافظة على الصلاة ومتى اختلت المحافظة على الصلاة اختل كل شيء, والآيات والأحاديث التي تحث على المحافظة على الصلاة وتبين فضلها كثيرة في كتاب الله وسنة رسوله, وأما الصدق فهو خلق شريف ما شاع في أمة إلا سادت وعزت وانتصرت على عدوها في الداخل والخارج, وضده الكذب والفجور ما شاع في أمة إلا هبطت إلى الدرك الأسفل وذلت وتشتت أمرها وهذا مشاهد بالعيان في كل زمان ومكان وأدلته في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصى.
الأمر الرابع العفاف, وهو حفظ البطن, والفرج, واللسان, وسائر الجوارح, من الفواحش ما ظهر منها وما بطن, وبه تنال سعادة المجتمع وتقع بين الناس الألفة والمحبة والتعاون وتلك هي أسباب السعادة:
تلك السعادة أن تلمم بساحتها فحط رحلك قد عوفيت من تعس
الأمر الخامس: الصلة وهي البر, والأحسان إلى الأقارب, قال الله تعالى يخاطب سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في سورة الأسراء 26: {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} وقال تعالى في سورة النساء رقم 36: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى ... الآية}.
وأخرج البخاري في كتاب الأدب ومسلم في كتاب البر والصلة بالأسناد المتصل إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة, قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك, قالت بلى, قال فذلك لك) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا أن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} وفي رواية للبخاري قال الله تعالى: (من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته).
وموعدنا المقال التالي بحول الله.
¥