" النَّعْي لَيْسَ مَمْنُوعًا كُلّه , وَإِنَّمَا نُهِيَ عَمَّا كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يَصْنَعُونَهُ فَكَانُوا يُرْسِلُونَ مَنْ يُعْلِن بِخَبَرِ مَوْت الْمَيِّت عَلَى أَبْوَاب الدُّور وَالأَسْوَاق.
قَالَ سَعِيد بْن مَنْصُور: أَخْبَرَنَا اِبْن عُلَيَّة عَنْ اِبْن عَوْن قَالَ قُلْت لإِبْرَاهِيم: أَكَانُوا يَكْرَهُونَ النَّعْي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ اِبْن عَوْن: كَانُوا إِذَا تُوُفِّيَ الرَّجُل رَكِبَ رَجُل دَابَّة ثُمَّ صَاحَ فِي النَّاس: أَنْعِي فُلانًا. وقَالَ اِبْن سِيرِينَ: لا أَعْلَم بَأْسًا أَنْ يُؤْذِن الرَّجُل صَدِيقه وَحَمِيمه.
وَحَاصِله أَنَّ مَحْض الإِعْلام بِذَلِكَ لا يُكْرَه , فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلا " انتهى.
وفي "تحفة الأحوذي":
" الظَّاهِرُ أَنَّ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ بِالنَّعْيِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ وَحَمَلَ النَّهْيَ عَلَى مُطْلَقِ النَّعْيِ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّعْيِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّعْيُ الْمَعْرُوفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الأَصْمَعِيُّ: كَانَتْ الْعَرَبُ إِذَا مَاتَ فِيهَا مَيِّتٌ لَهُ قَدْرٌ رَكِبَ رَاكِبٌ فَرَسًا وَجَعَلَ يَسِيرُ فِي النَّاسِ وَيَقُولُ: نَعَاءِ فُلانٍ أَيْ أَنْعِيهِ وَأُظْهِرُ خَبَرَ وَفَاتِهِ , وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا لأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ , وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِمَوْتِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ قُتِلُوا بِمُؤْتَةَ. وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ أُخْبِرَ بِمَوْتِ السَّوْدَاءِ أَوْ الشَّابِّ الَّذِي كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ: أَلا آذَنْتُمُونِي. فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الإِعْلامِ بِالْمَوْتِ لا يَكُونُ نَعْيًا مُحَرَّمًا وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اِسْمُ النَّعْيِ , وَلِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّعْيِ فِي قَوْلِهِ: (يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ) النَّعْيُ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ جَمْعًا بَيْنَ الأَحَادِيثِ.
قَالَ اِبْنُ الْعَرَبِيِّ: يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الأَحَادِيثِ ثَلاثُ حَالاتٍ: الأُولَى إِعْلامُ الأَهْلِ وَالأَصْحَابِ وَأَهْلِ الصَّلاحِ فَهَذَا سُنَّةٌ , الثَّانِيَةُ: دَعْوَةُ الْحَفْلِ لِلْمُفَاخَرَةِ فَهَذِهِ تُكْرَهُ , الثَّالِثَةُ: الإِعْلامُ بِنَوْعٍ آخَرَ كَالنِّيَاحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا يُحَرَّمُ " انتهى من "تحفة الأحوذي".
وقال النووي في "المجموع" (5/ 174):
" والصحيح الذي تقتضيه الأحاديث التي ذكرناها وغيرها أن الإعلام بموته لمن لم يعلم ليس بمكروه , بل إن قصد به الإخبار لكثرة المصلين فهو مستحب وإنما يكره ذكر المآثر والمفاخر والتطواف بين الناس بذكره بهذه الأشياء , وهذا نعي الجاهلية المنهي عنه , فقد صحت الأحاديث بالإعلام فلا يجوز إلغاؤها وبهذا الجواب أجاب بعض أئمة الفقه والحديث المحققين " انتهى.
وأما النعي برفع الصوت من غير ذكر للمفاخر والمآثر فقد ذهب جمهور أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة إلى كراهية النداء في الإعلام بموت الميت؛ لما تقدم من حديث حذيفة رضي الله عنه.
ولأن النداء ورفع الصوت بموت الميت يشبه من حيث الصورة نعي الجاهلية الذي ورد النهي عنه، فإنهم كانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق.
انظر: "العناية شرح الهداية" (3/ 267)، "الخرشي على مختصر خليل" (2/ 139)، "المهذب" (1/ 132)، "الشرح الكبير" (6/ 287).
قال ابن قدامة في "المغني":
" ويكره النعي , وهو أن يبعث مناديا ينادي في الناس: إن فلانا قد مات. ليشهدوا جنازته. . . وقال كثير من أهل العلم: لا بأس أن يعلم بالرجل إخوانه ومعارفه وذوو الفضل , من غير نداء. قال إبراهيم النخعي: لا بأس إذا مات الرجل أن يؤذن صديقه وأصحابه , وإنما كانوا يكرهون أن يطاف في المجالس: أنعي فلانا. كفعل الجاهلية " انتهى.
وذهب جماعة من الحنفية إلى أنه لا يكره النداء على الميت في الأزقة والأسواق إذا كان نداءً مجرداً عن ذكر المفاخر.
قالوا: لأن في ذلك تكثير الجماعة من المصلين والمستغفرين للميت، وليس مثله نعي الجاهلية، فإنهم كانوا يبعثون إلى القبائل ينعون مع ضجيج وبكاء وعويل وتعديد ونياحة.
انظر: "فتح القدير" (2/ 128).
وأجاب الجمهور عن هذا بأن مقصود تكثير الجماعة من المصلين والمستغفرين للميت يمكن حصوله دون النداء ورفع الصوت.
انظر: "فتح الباري" (3/ 117).
وأما النعي على المنائر في المساجد فقد سبق الجواب عليه في السؤال رقم (41959).
الإسلام سؤال وجواب
http://www.islamqa.com/ar/ref/60008
¥