تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد لا يبعد أن تقوم شبهة عند جاهل بصناعة الطب والسحر، تمنعه من تحصيل العلم بالإعجاز، فيقول: لعل موسى اطلع من السحر على شيء لم يعلمه السحرة ولا اطلعت عليه، وكذلك عيسى: لعله وقع على خاصية بعض الأحجار، أو بعض الموجودات، فكان يفعل بها ما يظهر على يديه، وهذه الشبهة إنما ممكن أن تظهر للجاهل بالطب والسحر، وأما العالم بالطب وبالسحر: فلا تكون هذه شبهة في حقه؛ لعلمه الذي حصل له بالذوق والممارسة، بأن الذي جاء به هذا مما ليس يدرك بحيلة صناعية ولا بالوقوف على خاصية؛ بل هو صنع خالق البرية، وأنه أراد به التصديق لهذا المدعي، والشهادة اليقينية، فحصل من هذا: أن العلم بإعجاز إحياء الموتى وقلب العصى إنما يحصل أولاً للسحرة والأطباء ولا يحصل لكثير من الجهال بالطب والسحر الأغبياء، فكذلك إعجاز القرآن، ولا فرق: حصل العلم به لمن يعلم لسان العرب بالذوق، بضرورة الفرق الذي بينه وبين لسان العرب، فعلم أنه ليس داخلا تحت مقدور العرب، وإذا عجز عنه العرب الفصحاء، واللد البلغاء: فغيرهم أعجز، كما أنا نقول: إذا عجز الأطباء عن إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فغير الأطباء أولى، وإذا عجز السحرة عن قلب العصى ثعباناً: فغير السحرة أعجز وأعجز.

وقولهم " إنما يعجز عنه العرب لا العجم ": معارض بأن يقال لهم: إنما يعجز عن إحياء الموتى الأطباء لا غيرهم، وإنما يعجز عن قلب العصى السحرة لا غيرهم، فبالذي ينفصلون به ننفصل، بل نزيد عليهم في الانفصال بوجوه ترفع الأشكال، فإنا سنبدي وجوهاً في إعجاز القرآن يدركها كل إنسان، عجميّاً كان أو عربيّاً، مجوسيّاً كان أو كتابيّاً، وسنبينها إن شاء الله إثر هذا.

فقد حصل من هذا الكلام كله العلم بأن محمَّداً صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن، وتحدى به وهو معجزة، وكل من جاء بالمعجزة وتحدى بها: فهو صادق، فالنتيجة معلومة وهي أن محمَّداً صلى الله عليه وسلم صادق.

" الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام " (ص326).

2. وقال بعض أهل العلم: إن الإعجاز في كتاب الله تعالى ليس فقط في لفظه، بل في المعاني وترتيبها وطريقة عرضها، فالإعجاز والتحدي للعرب: باللفظ، ولغيرهم: في عدم قدرة أحد من أي أهل لسان كان أن يأتي بكلام يشبه ذلك بأي لغة.

قال الجصاص – رحمه الله -:

قوله تعالى (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن) الآية فيه الدلالة على إعجاز القرآن، فمن الناس من يقول: إعجازه في النظم على حياله، وفي المعاني وترتيبها على حياله، ويستدل على ذلك: بتحديه في هذه الآية العرب والعجم، والجن والإنس، ومعلوم أن العجم لا يُتحدون من طريق النظم، فوجب أن يكون التحدي لهم من جهة المعاني وترتيبها على هذا النظام، دون نظم الألفاظ.

ومنهم من يأبى أن يكون إعجازه إلا من جهة نظم الألفاظ، والبلاغة في العبارة، فإنه يقول: إن إعجاز القرآن من وجوه كثيرة منها: حسن النظم، وجودة البلاغة في اللفظ والاختصار، وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة، مع تعريه من أن يكون فيه لفظ مسخوط ومعنى مدخول، ولا تناقض ولا اختلاف تضاد، وجميعه في هذه الوجوه جار على منهاج واحد، وكلام العباد لا يخلو ـ إذا طال ـ من أن يكون فيه الألفاظ الساقطة، والمعاني الفاسدة والتناقض في المعاني، وهذه المعاني التي ذكرنا من عيوب الكلام: موجودة في كلام الناس من أهل سائر اللغات، لا يختص باللغة العربية دون غيرها، فجائز أن يكون التحدي واقعاً للعجم بمثل هذه المعاني: في الإتيان بها عارية مما يعيبها ويهجنها من الوجوه التي ذكرناها، ومن جهة أن الفصاحة لا تختص بها لغة العرب دون سائر اللغات وإن كانت لغة العرب أفصحها وقد علمنا أن القرآن في أعلى طبقات البلاغة فجائز أن يكون التحدي للعجم واقعا بأن يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة بلغتهم التي يتكلمون بها.

" أحكام القرآن " (5/ 34، 35).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير