على كل حال، طالب العلم لا بد أن تكون رؤيته متكاملةً وشاملة, ولذا يشترطون لمن يتصدَّى لتفسير القرآن أن يعرف جميع العلوم؛ لأنه قد يشكل عليه أشياء في تفسير القرآن لا يحلها إلا فقيهٌ، لا يحلها إلا مُحدِّث، لا يحلها إلا لُغوي، تشكل عليه بحيث لا يحلها إلا علماء البلاغة، وهكذا [26].
فطالب العلم عليه أن يأخذ من كل علمٍ ما يناسبه، ولا يعني أنه موغل في كل علم، بحيث يصير هو الهمَّ أجمع، لا، يأخذ من كل علم ما يكفيه، فهناك مختصرات في سائر العلوم نافعة، وأهل العلم ما قصروا، رتَّبوا هذه الكتب وصنفوها، وجعلوها على طبقات تناسب المتعلِّمين وطبقاتهم، فجعلوا للمبتدئين كتبًا، وجعلوا للمتوسطين كتبًا، وجعلوا للمتقدمين كتبًا، وكتب العلم التي تشرح موجودة، والأشرطة وكلام أهل العلم في هذا كثير.
وعِلْم العربيَّة نحتاجه أيضًا في السُّنة، وعرفنا اختلاف الحكم تبعًا لاختلاف الإعراب [27]، وعرفنا أنَّ الخطر الذي عبَّر عنه الأصمعي وغيره بإدخال من يلحن في الحديث بحديث ((مَن كذب))، قد يكون هذا غير متعمد، فيخرج من هذا، لكن كونه يُلصَق بهؤلاء - ولو مِنْ وَجْه - أنه كذب على النبي - عليه الصلاة والسلام - فالإنسانُ لا يريد أن يقع في هذا، ولو لَم يكن عن قصد، وحديث: ((مَن حدث عنِّي بحديث يُرَى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين)) [28]، فهذا مخيف، يعني ما يلزم أن تراه أنت، لو رآه غيرُك أنه كذب، فأنت واقع في هذا الوعيد، وإنك أحد الكاذبين، والكاذبُ عليه مِنَ اللهِ ما يستحقُّ - كما جاء في النُّصوص [29].
لا بُدَّ أن نتعلم العلم، وأنتم لا شك أنَّكم مِن طلاب العلم، وأخذتم منه بقسط كافٍ - إن شاء الله تعالى - لكن المزيد هو المطلوب، والله - جلَّ وعلا - ما أَمَرَ نبيَّه من الاستزادة من شيء إلا من العلْم: ? وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ? [طه: 141].
فنحن بحاجة ماسة إلى الازدياد من العلم، بعض الناس يقول: أنا والله تخرجت، درست مدة عشرين سنة، خمسٍ وعشرين سنة، والآن أحمل أعظم الشهادات، يعني إلى متى؟ نقول: الرسول - عليه الصلاة والسلام - قيل له: ? وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ? [طه: 141].
وبعض الناس يقول: أنا والله درست مدة عشر سنين، عشرين سنة، ثلاثين سنة، وإذا سُئلت عن شيء ما أقدر، ما استفدت، فأترك.
نقول: يا أخي، النتيجة ليست بيدك، النتيجة عند الله - جل وعلا - عليك أن تبذل السبب، فبذْلُ السبب منك مطلوب؛ ((من سلك طريقًا))، السبب سلوك الطريق، ابذل سلوك الطريق، فاسلك الطريق تضمن لك النتيجة؛ ((مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)) [30].
حضر معنا البعض عن المشايخ، بعض الناس أدركناه في الخامسة والسبعين من العمر، درس على شيوخنا وعلى شيوخهم، وكان زميلاً لشيوخهم، فدرس مع الشيوخ ومع شيوخهم، ودرس مع الطلاب، وتأخَّر عنا في الطلب حتى مات، ما يقرب عن تسعين سنة، لكنه بالفعل ما أدرك شيئًا؛ لأنه إذا سمع شيئًا يحثه على العمل عمِل به، فهذا مع صدق النية سهل الله - جل وعلا - به طريقًا إلى الجنة، فالنتيجة مضمونة، النتيجة في الآخرة مضمونة، لكن في الدنيا هل ضمن لك أن تكون عالمًا؟ لا، ما ضمن لك أن تكون عالمًا؛ ولذا اليأس ليس بوارد، لا في العلم ولا في العمل؛ لأن بعض الناس أيضًا بالنسبة للعمل، يقول: حاولت وعجزت، كيف حاولت؟ حاولت الإخلاص وما قدرت، يأتي كثير من طلاب العلوم الشرعية والكليات، يقولون: والله نحن حاولنا الإخلاص، ومن شرط العلم الإخلاص؛ لأنه من أمور الآخرة المحضة، لا يجوز فيه التشريك، فأخشى أن أكون من أول من تُسعَّر بهم النار [31]، أترك طلب العلم، يقال له: لا تترك ولا تيْئَس، الترك ليس بحلٍّ، لكن عليك أن تجاهد، تجاهد نفسك، وحينئذٍ إذا علم الله منك صدق النية، أعانك.
بعض الناس يقول: حاولت قيام الليل، وجاهدت نفسي وعجزت، نقول: السلف كابدوا قيام الليل سنين، ولا بد مِنْ تجاوز مرحلة الاختبار، فإذا تجاوزت مرحلة الاختبار ونجحت، فإنك في النهاية تتلذَّذ، فالطلب في بدايته شاقّ، أقرانك وأقاربك في استراحات مبسوطون على ما قالوا، يتمشون وينبسطون، ويتجاذبون أطراف الحديث، وينظرون إلى أخبار العالم، وأنت جالِس بزاوية في بيتك تقرأ كتابًا، أو في مسجد بين يدي الشيخ.
¥