وجاء رجل إلى سُحنون يسأله عن مسألة، فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال: مسألتي أصلحك الله، اليوم ثلاثة أيام؛ فقال له: وما أصنع بمسألتك؟ مسألتك معضلة، وفيها أقاويل، وأنا متحير في ذلك؛ فقال: وأنت أصلحك الله لكل معضلة؛ فقال سُحنون: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لحمي ودمي للنار، وما أكثر ما لا أعرف، إن صبرتَ رجوتُ أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامضي تجاب في مسألتك في ساعة؛ فقال: إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك؛ قال: فاصبر؛ ثم أجابه بعد ذلك.
وقيل له: إنك تُسأل عن المسألة لو سئل عنها أحد من أصحابك لأجاب فيها، فتتوقف فيها، فقال: "إن فتنة الجواب بالصواب أشد من فتنة المال".
قال بشر الحافي: "من أحب أن يُسأل فليس بأهل أن يُسأل".
وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك قال: "أخبرني رجل دخل على ربيعة فوجده يبكي؟ فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم".
وقال ربيعة: "ولبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السراق".
قلت: هذا المسلك الحميد، والتثبت الكثير، استمده السلف الصالح من رسول الهدى، وإمام المتقين المعصوم من الزلل، المؤيد بالوحي، مع ذلك كان كثيراً ما يقول لا أدري، وكذلك كان يقول أمين الوحي جبريل.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي البقاع خير؟ قال: "لا أدري"، فقال: سل ربك، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: "يا جبريل، أي البقاع خير؟ "، فقال: "لا أدري"، فقال: "سل ربك"، فانتفض جبريل انتفاضة كاد يصعق منها محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما أسأله عن شيء"، فقال الله عز وجل لجبريل: "سألك محمد أي البقاع خير؟ فقلتَ: لا أدري، وسألك أي البقاع شر؟ فقلتَ: لا أدري؟ فأخبره أن أحب البقاع المساجد، وأن شر البقاع الأسواق".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أدري أعُزَيْر نبي أم لا؟ وما أدري أتبع ملعون أم لا؟ ".
وقال: "ما أدري أتبع لعن أم لا، وما أدري ذو القرنين نبي أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟ ".
أقول: ما بال كثير من أهل زماننا يتجاسرون على الفتيا ولا يخشون مغبتها، ولا يتورعون كما تورع أسلافهم، فيبيعون آخرتهم بدنياهم، وفي كثير من الأحيان يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم من الحكام والعامة؟!
الأسباب التي تدفع البعض إلى هذا السلوك المشين، والخلق المعوج اللئيم كثيرة
ولكن أخطرها ما يأتي:
أولاً: الجهل بخطورة الفتوى وما يترتب عليها، وما تثبت السلف عنها إلا لعلمهم بخطورتها.
ثانياً: خطب ود الحكام.
ثالثاً: محاولة التلفيق بين الإسلام وإفرازات الحضارة الغربية المادية الكافرة.
رابعاً: خطب ود العامة، فمنافقة المجتمع والعامة أخطر من منافقة الحكام.
خامساً: اعتقاد البعض جواز التشهي في الفتوى، فيتخير من أقوال أهل العلم أيسرها لمن يهواه من المستفتين.
سادساً: حب التميز على الآخرين بدعوى التخفيف والتسهيل.
سابعاً: الحرص على تتبع زلات وسقطات بعض أهل العلم بدعوى أنها داخلة في الرخص الشرعية.
ثامناً: توهُّم الضرورة، إذ الضرورة التي تبيح أكل الربا مثلاً إن لم يأكله هلك.
تاسعاً: الاستحياء من قول لا أدري.
عاشراً: إيثار السلامة.
أخطر المسائل التي يجب التحرز من الفتيا فيها
عليك أخي القارئ أن تقارن بين ورع السلف الصالح عن الفتيا وتجاسر الخلف عليها، وليت الأمر اقتصر على المنتسبين إلى العلم الشرعي، بل تعداه إلى تطفل بعض الوراقين والصحفيين من الشيوعيين والمنافقين، حيث أصبحوا يحللون، ويحرمون، وينكرون من الدين ما لا تهواه أنفسهم، حيث أباحوا الردة وأنكروا حدها، وشككوا في الكثير من المسلمات، بل وصلت بهم الجرأة إلى التطاول على ثلة من العلماء، وتحريض الكفار عليها، وتخويفهم من خطرها، بما يخيله إليهم باطنهم المريض، وعقلهم الباطن الحاقد، وما تطفح به الصحف من هجوم شرس، وتحامل بغيض، على الفتوى الموفقة التي أصدرتها الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة من عدم جواز الانتساب إلى حركة التحرير ليس ببعيد عنا، فحسبنا الله عليهم، وهو كافينا شرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعند الله تلتقي الخصوم، وينصر المظلوم.
¥