تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد حذق ابن القيم كعادته فصور هذا المشهد، فقال: (وأما ضبط السرور، فلا يقدر عليه إلا الأقوياء؛ أرباب العزائم، الذين لا تستفزهم السراء؛ فتغلب شكرهم، ولا تضعفهم الضراء؛ فتغلب صبرهم. والنفس قرينة الشيطان ومصاحِبته، وتشبهه في صفاته، ومواهبُ الرب - تبارك وتعالى - تنزل على القلب والروح؛ فالنفس تسترق السمع، فإذا نزلت على القلب تلك المواهب، وثَبَتْ لتأخذ قسطها منها، وتصيِّره من عدَّتها وحواصلها؛ فالمسترسل معها، الجاهل بها يدَعُها تستوفي ذلك، فبينا هو في موهبة القلب والروح وعدة وقوة له؛ إذ صار ذلك كله من حاصل النفس وآلتها وعُددها؛ فصالت به وطغت؛ لأنها رأت غناها به، والإنسان يطغى أن رآه استغنى بالمال؛ فكيف بما هو أعظم خطراً وأجلُّ قدْراً من المال بما لا نسبة بينهما؛ من عِلْم أو حال أو معرفة أو كشف؟ فإذا صار ذلك من حاصلها انحرف العبد به ولا بد إلى طَرَف مذموم؛ من جرأة، أو شطح، أو إدلال ... ونحو ذلك؛ فوالله كم ههنا من قتيل، وسليب، وجريح يقول: من أين أُتيت؟ ومن أين دُهيت؟ ومن أين أُصبت؟ وأقل ما يعاقب به من الحرمان بذلك: أن يُغلَق عنه باب المزيد؛ ولهذا كان العارفون، وأرباب البصائر: إذا نالوا شيئاً من ذلك انحرفوا إلى طرَف الذل، والانكسار، ومطالعة عيوب النفس، واستدعَوا حارس الخوف، وحافظوا على الرباط، بملازمة الثغر بين القلب وبين النفس، ونظروا إلى أقرب الخلق من الله، وأكرمهم عليه، وأدناهم منه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهاً، وقد دخل مكة يوم الفتح، وذقنه تمس قربوس سرجه [6]؛ انخفاضاً وانكساراً وتواضعاً لربه - تعالى - في مثل تلك الحال التي عادة النفوس البشرية فيها أن يملِكها سرورها، وفرحها بالنصر والظفر والتأييد، ويرفعها إلى عَنَان السماء؛ فالرجل: من صان فتْحَه، ونصيبه من الله، وواره عن استراق نفسه، وبخل عليها به، والعاجز: من جاد لها به، فيا له من جُوْد ما أقبحه! وسماحة ما أسفه صاحبها! والله المستعان) [7].

ومن تأمَّل حال الكُمَّل من الخلق، يلحظ أنهم قد أخذوا من هذه المعاني بحظ وافر؛ فهذا آدم وزوجه - عليهما السلام - يقولان: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 32] وقال نوح - عليه السلام -: {وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 74] وقال إبراهيم - عليه السلام -: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 28] وقال موسى - عليه السلام -: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 61] وقال: {رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 42] وقال يونس - عليه السلام -: {لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 78] وقد قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: «قل: اللهم! إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» [8].

قال ابن القيم: (فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل، وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يَصحَّ له بعدُ الإسلام حتى يدَّعي الشرف فيه، ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيراً: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء، وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:

أنا المكدي وابن المكدي

وهكذا كان أبي وجدِّي

وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً، وبعث إليَّ في آخر عُمُره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظْمِه:

أنا الفقير إلى رب البريات

أنا المسيكين فى مجموع حالاتي

أنا الظلوم لنفسي، وهي ظالمتي

والخير إن يأتنا من عنده ياتي [9]

وقد ضرب الإمام أحمد في هذا المعنى بسهم وافر؛ فمن ذلك:

- قال يحيى بن معين: (ما رأيت مثل أحمد؛ صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيءٍ مما كان فيه من الخير) [10].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير