ولعل أكثر ما يؤلم المؤرخ والكاتب اليوم أن ينسب الفضل في معرفة الأهرام للغرباء عن مصر لغة وديناً وثقافة. فقد يسال كثير من أبنا الإسلام ببرائة متناهية غريبة!! , هذه الأعجوبة هل عرفها المسلمون الأوائل؟ , وهل اكتشفوها وعرفوا شيئاً من أسراها؟ , وهل ذرعوها وعرفوا مساحتها وأطوالها وحدوها وأماكنها؟؟ , هل وصفوها وكتبوا عنها؟؟ , أم أن الغرب المحتل هم أول من وصفها وكتب عنها!!.
والعجب هوا أن الكتب التي تقدم للسائحين غالبها بلغة أجنبية لا تتحدث إلا عن المكتشف فلان والكاتب فلان , وكلهم من غير جلدتنا ولساننا وديننا , حتى يظن الظان أن المصريين والمسلمين قبل مئتين سنة كانوا عمياناً أو عجزة عن معرفة الأهرام , حتى نزل عليهم هؤلاء المخلصون ليبينوا لهم حضارتهم القديمة.
وللأسف أن كثيراً من الكتاب اليوم يتناسون أن العرب الأوائل كتبوا عنها ووصفوها بكثرة , ولهم أخبار وقصائد في ذلك.
ولعل كثيراً من الناس لا يدري أن المأمون الخليفة العباسي قد استطاع رجاله وعلماء دولته بناء على طلبه فك لغز الأهرام , وفتحوا مغارة أحدها وهو خوفوا الهرم الكبير , ورأوا الرسوم والنقوش , ورأوا جثة الملك والجواهر والذهب من حوله , وسطر ذلك علماء المسلمين , ولم يكن ذلك سراً لا يعلمه أحد!!.
ولازالت تلك البنايات الشاهقة الغريبة العجيبة مثار جدال ونقاش من علماء الأثار , وقد سبق علماء المسلمين الغرب في بيان مدى الخلاف فيها , وممن تكلم فيها من علماء المسلمين المؤرخ الشهير (علي بن حسين المسعودي) , وقد توفي المسعودي سنة (346) , وله رحلات كثيرة للشرق والغرب وأكثر من وصف الأماكن والبلدان , وهو صاحب الكتاب المعروف (مروج الذهب) , حيث قال عن الأهرامات وأمرها العجيب: " والأهرام وطولها عظيم، وبنيانها عجيب، عليها أنواع من الكتابات بأقلام الأمم السالفة، والممالك الداثرة، لا يحرى ما تلك الكتابة ولا ما المراد بها، وقد قال مَنْ عنى بتقدير ذرعها: إن مقدار ارتفاع ذهابها في الجو نحو من أربعمائة ذراع، أو كثر، وكلما علا به الصعداء دق ذلك، والعرض نحو ما وصفنا، عليها من الرسوم ما ذكرنا، وإن ذلك علوم وخواص وسحر وأسرار للطبيعة " , ثم أفاض في صفتها وصفة النقوش والكتابات والرسوم في نواحي مصر.
وأما صاحبنا المسعودي في كتابه الآخر (أخبار الزمان) فهو يتحدث عن محاولات ومغامرات اكتشاف أسرار الأهرام في القرون الأولى , والتي يطيل هذا الرحالة في وصف ما فيهامن المغارات والطرق الملتوية المتعرجة والرسوم على الجدران والذهب الهائل الذي يكون في السرير والمراكب والجدران والتماثيل والتوابيت وغير ذلك , وهذه القصص هي التي كان البعض يضعف بها المسعودي لغرابة القصة آنذاك وأعجوبتها وقد عدها بعض الناس في أزمان سابقة من الأساطير والهوس التاريخي , وأما اليوم فهي صور حقيقة مثل التي تعودنا عليها والتي تصور عبر التلفزيون لمكتشفي الأهرامات , ولو نقلت كلامه حرفياً لطالت بنا الصفحات فمن أراده فليرجع إليه.
وإذا انتقلنا لكاتب رحالة آخر فسنجد أبي الحسن الهروي المتوفى سنة (611) , وهي العصور التي كانت أوربا تسميها بعصور الظلام لها , فهو يحدثنا عن مشاهداته , ويذرع بنفسه , ويكتب مذكراته وذكرياته بلغة بديعة , وهو رحالة إسلامي لم يدرك بلداً من بلدان المسلمين إلا دخلها حتى قال عنه ابن خلكان: " إنه لم يترك براً ولا بحراً ولا سهلاً ولا جبلاً من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه , ولم يصل إلى موضع إلا كتب خطه في حائطه و ولقد شاهدت ذلك في البلاد التي رايتها مع كثرتها ".
قال الهروي في كتابه (الإشارات إلى معرفة الزيارات) ص (41): " الأهرام , من عجائب الدنيا , وليس على وجه الأرض شرقيها وغربيها عمارة أعجب منها ولا أعظم ولا أرفع , ورأيت بديار مصر أهراماً كثيرة خمسة كبار والباقي صغار , فأما الكبار فاثنان عند الجيزة , واثنان عند قرية يقال لها دهشور , وهرم عند قرية يقال لها (ميدوم) , وقد اختلفت أقاويل الناس فيها وفيمن بناها وما أريد بها , فمنهم من قال إنها قبور الملوك , ومنهم من قال إنما عملوها خوف الطوفان , .... مساحة كل وجه منها على وجه الأرض أربعمائة ذراع وارتفاعها في الجو يقارب أربعمائة ذراع بذراع العظم ...... (وبعد أن ذكر أن المأمون فتح
¥