وهكذا تأمل في العقوبات الشرعية التي ذكرها أهل السنة، مثل: عقوبة الداعية الى البدعة، وعقوبة الجاسوس، عقوبة من يقذف الصحابة، وعقوبة المفطر في نهار رمضان جهاراً، عقوبة أي طائفة تمتنع عن شريعة من شرائع الإسلام كالأذان، الخ وقارنها بمدرسة حرية المنافقين تجد أن أصحاب هذا المذهب يؤول كلامهم إلى جحد كل العقوبات من حيث أصل وضعها الشرعي، لأنهم أتاحو الحرية لأغلظ أنواع الكفر، وصارو يقولون أن مادون ذلك فهو أولى بالحرية، فآل هذا القول إلى إلغاء كافة العقوبات الشرعية من حيث أصل وضعها الشرعي، فهذا يعني أن أبواب الحدود في الفقه الإسلامي كانت تضييعاً للوقت!
هذا اللازم الذي تورطت به هذه المدرسة يقودنا إلى اكتشاف خطأ فرضيات هذه المدرسة في تفسيرها لآيات أفعال المنافقين، إذ لوكانت فرضيتهم التفسيرية لآيات أفعال المنافقين صحيحة لما أدت لهذه النتيجة الكارثية التي تلغي عشرات النصوص والتشريعات الأخرى.
وهذه طريقة أهل السنة في تحليل تفسيرات النصوص، فإنهم يدرسون لوازم وآثار التفسيرات المطروحة، فإذا انسجمت مع بقية النصوص علموا صحتها، وإذا أدت للوازم فاسدة علمو بطلان هذا التفسير، ولذلك يقول الإمام ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه: (فساد اللازم يستلزم فساد الملزوم) وهي آلية عقلية استعملها القرآن كثيراً، وأخبر الناس بها أهل السنة.
وهذا اللازم (إلغاء العقوبات الشرعية) ليس لهم إلا أن يتراجعوا عنه، ويقرو بالعقوبات الشرعية التي قررها أهل السنة وينقضوا تفسيرهم الشاذ لآيات أفعال المنافقين، وإما أن يواصلوا تمسكهم بهذا اللازم، فعليهم هاهنا أن يكونو صرحاء مع أنفسهم ويعترفوا أنهم مفارقين لجملة من أصول أهل السنة، وعلى رأسها –في هذه المسألة- أصول أهل السنة في العقوبات والانكار والحسبة، وهي أصول كلية إجماعية وليست مسائل اجتهادية يغمض مأخذها ولايثرب فيها على المخالف.
- الجواب الإجمالي عن الشبهة:
إذا كان تفسير آيات أفعال المنافقين بهذه الصورة يؤول إلى إلغاء العقوبات الشرعية وشعيرة الحسبة والإنكار، فما هو التفسير الصحيح لهذه الآيات التي سردها هؤلاء إذن؟
هذا السؤال يقودنا الآن إلى الجزء الرئيس أو العمود الفقري لهذه المقالة، والحقيقة أن تفسير آيات أفعال المنافقين يحتاج إلى مستويين من الجواب: الجواب الإجمالي، والجواب التفصيلي عن أفراد تلك الآيات التي استدلو بها آيةً آية.
فأما الجواب الإجمالي عن هذه الشبهة فهو أن أقوال وأفعال المنافقين، أو المخالفة للشرع بشكل عام، ليست على حال واحدة، فهي إما أن تكون سراً يتداولونها بينهم –وهذا هو الأصل والغالب- وإما أن تكون ظهرت ونقلت للرسول لكنهم أنكروها أو تابو وتراجعو عنها، وإما أن تكون نقلت للرسول ولم ينكروها ولم يتوبوا عنها لكن الرسول ترك إيقاع العقوبة لمانع شرعي راجح، وإما أن تكون نقلت للرسول ولم ينكروها ولم يقم مانع وتم إيقاع العقوبة.
فأما المرتبة الأولى وهي كون أقوالهم وأفعالهم يسرون ويجتهدون في التستر بها فهي الغالب على المنافقين، ولذلك قال تعالى عنهم (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة101] فبين أن النبي لايعلمهم كلهم بأعيانهم وأن الأصل فيهم التستر بأفعالهم.
وقال تعالى (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد30]. فبين أن الله لم يره إياهم، وإنما يمكن التعرف إليهم بالقرائن لا صراحة.
وقال تعالى (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) [التوبة64]
فأشارت هذه الآية إلى اجتهادهم في ستر نفاقهم في قلوبهم حتى خافو أن تفضحه الآيات.
ولو قيل لأي مسلم من أعلم أمة محمد بالمنافقين؟ لقال على الفور: حذيفة رضي الله عنه. فاسمع مايقول حذيفة في صحيح البخاري (إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يومئذ يسرون، واليوم يجهرون) [البخاري 7113].
وبسبب كون الأصل فيهم الإسرار فلذلك استحقو هذا اللقب (المنافقين) والذي تميزو به عن عامة الكفار.
¥