تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبهؤلاء حُفِظَت الشريعة واستقامت الملة، واجتازوا بها قرونا من الكيد والعداء كما يجتاز المركب لجج البحر وعواصفه حتى وصلت إلينا الشريعة بعد خمسة عشر قرنا بيضاء نقية.

عباد الله: وفي هذه السنوات المتأخرة ظهرت بادرة تنبىء بالشر وتفتح باب السوء بكثرة المتسولين على حمى الشريعة بالخوض والتخوض في دين الله بلا ورع وازع ولا خوف من الله رادع، تطير بذلك وسائل إعلام وشبكات اتصال تروج الشاذ من الأقوال وتفتي بالرخص حتى أحدثت عند الناس الاضطراب وأودت بهم في مسالك الانحراف ..

ومن يفسد على الناس دينهم أولى بالعقوبة والمنع ممن يفسد دنياهم، ولو كان كل قول معتبرا ما استقام للناس دين ولا عقيدة؛ فإن لإبليس قولا ولفرعون مقالا، ولكل إنسان رأي وفهم إذا لم يضبط بالشرع فلا حد لضلاله ..

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " إن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزل أو وحي من السماء، ولو رُدُّوا لأهوائهم فلكل واحد عقل " ..

وكم من معجب برأيه لا يدري أنه إمام في ضلالة .. عليه وزره ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وقد قال الله - تعالى - في فرعون وملئه: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ... (41 سورة القصص).

عباد الله: وفي خضم هذا التخوض وكثرة من يبدي في الشريعة حكما وفي الدين رأيا؛ فإنا نقول كما قال الأولون: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ".

وإذا وقفت غدا أمام الله فلن تُعذر باتباعك لمن تبرأ الذمة باتباعه ولا يوثق بعلمه ولا دينه ولا فقهه وورعه .. لم تأخذ عنه إلا ما وافق هواك واطرحت قول العالم الرباني الذي يخاف الله ويخشاه ويعلم كيف يتقيه ويعبده وكيف يصل إلى مرضاته وجنته.

إن الدين لله .. منه نزل وإلى جلاله يعود، والله الذي له الخلق والأمر يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد، والحق في المسائل المختلف فيها واحد .. والحكم عند الله ثابت مهما اختلفت أقوال المفتين، وليست تبرأ الذمة بمجرد أن تجعل بينك وبين النار مفتيا .. ولكن الواجب على المكلف أن يتحرى وأن يعرف مَنْ يسأل ليخرج من التبعة ويصيب حكم الله - عز وجل - ويحقق مراده - سبحانه - ..

والبلية كل البلية في القصد إلى الأخذ بأخف الأقوال في مسائل الخلاف وسؤال من ليس أهلا للفتيا، والله يقول: ... فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43 سورة النحل)؛ فبسؤال غيرهم لا تبرأ الذمة ولا يخرج المكلف من التبعة.

إن حدود الله لا تستباح بزلة عالم ولا فتوى متعالم، ومن تتبع الرخص فسق بإجماع العلماء وتحلل من ربقة التكليف، ومن أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله، والبر ما سكنت إليه النفس واطمئن إليه القلب .. والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك.

أيها المسلمون: إن اللافت للنظر في المشهد العلمي اليوم ورغم وجود بقية من أهل العلم تترسم خطى الأسلاف وتعي ثقل التركة .. إلا أن حمى علم الشريعة غدا مستباحا في كثير من الأحيان حتى دهمه الدهماء واغتاله الغوغاء وتسارع للخوض فيه أنصاف المتعلمين وأرباعهم، واجترأ عليه من لم تمس يده مختصرا فقهيا أو شرحا حديثيا ومن لم يسمع في حياته عن الأحكام التكليفية والوضعية ودلالات الألفاظ على الأحكام ومقاصد الشريعة وموارد الأحكام ومصادرها .. حتى إنك لترى أحدهم يعتمد على حديث منسوخ ويستدل بأثر ضعيف ويتكئ على شبهة أجاب عنها العلماء ..

وأصبحت المسألة الشرعية التي لو عرضت على أبي بكر لجمع لها أهل بدر ولو سئل عنها أئمة العلم لتدافعوها .. أصبحت كثير من المسائل العلمية فريسة لصحفي أو عنوانا جاذبا لحوار فضائي أو فكرة لرسام هزلي، وأصبح عرض كثير من أهل العلم وطلبته كلأً مباحا ومرتعا خصبا للهمز واللمز، واستمرأت هذا الأمر صحف ووسائل إعلام حتى أصبح لا ينكر، وصار يتصدى للعلماء وفتاواهم من لا حظ له في العلم، بل ولا حتى في الديانة ..

ومع قناعتنا بأنه لا كهنونية في الإسلام ولا معصوم إلا سيد الأنام .. فإننا نعتقد في الوقت نفسه أن هذه سابقة خطيرة لا نعلم أن لها مثيلا في عصور الإسلام السالفة.

إن مسائل العلوم الشرعية يجب أن تبحث حسب في أصولها وبين أهلها الفاقهين بها ..

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير