ففي صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
((مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)).
ومن ذلك ما رواه أبو داود عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: ((جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ)).
وإليك كلاما طيبا لابن القيّم الجوزية رحمه الله حيث قال:
"كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الذّروة العليا منه، فاستولى على أنواعه كلّها، فجاهد في الله حقّ جهاده بالقلب والجنان، والدّعوة والبيان، والسّيف والسّنان ... أمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه وقال: { ... فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} فهذه سورة مكّية، أمر فيها بجهاد الكفّار بالحجّة والبيان وتبليغ القرآن، وكذلك جهاد المنافقين إنّما هو بتبليغ الحجّة، وإلاّ فهم تحت قهر أهل الإسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73].
فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفّار وهو جهاد خواصّ الأمّة وورثة الرّسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلّين عدداً فهم الأعظمون عند الله قدراً، ولمّا كان من أفضل الجهاد قول الحقّ مع شدّة المعارض مثل أن تتكلّم عند من تخاف سطوته وأذاه، كان للرّسل من ذلك الحظّ الأوفر، وكان لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم من ذلك أكمل الجهاد وأتمّه، [يقصد بذلك ما بشّر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من اقتدى به في ذلك قائلا: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: ((إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)) رواه التّرمذي وغيره] ". اهـ["زاد المعاد" (3/ 6)].
ويؤيّد كلام ابن القيّم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نُهِي عن قتل المنافقين، فهذا يدلّ على أنّ معنى (وجاهد الكفّار والمنافقين) إنّما المقصود منه الجهاد بالحجّة والبيان.
ويؤيّده أيضا رواية مسلم عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
فقد فسّر العلماء القتال هنا بما هو أعمّ من القتال بالسّيف، فقد قال البخاري في "صحيحه": " بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ)) وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وأخرج التّرمذي حديث الباب ثمّ قال: سمعت محمّد ابن إسماعيل – هو البخاريّ – يقول: سمعت عليّ بنَ المدِيني يقول: هم أصحاب الحديث .. وجاء نحوه عن أبي هريرة ومعاوية وجابر رضي الله عنهم، وسلمة بن نفيل، وقرّة ابن إياس " اهـ.
وأخرج الحاكم في " علوم الحديث " بسند صحيح عن أحمد رحمه الله قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم!
ومن طريق يزيد بن هارون مثله.
ومن لم يكن عالما يبيّن الحقّ ويردّ الباطل وكان يحسِن الكلام فليستغلّه في نصرة الحقّ، ولا يخفى على أحد ما كان يفعل شعر حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما في المشركين ..
روى التّرمذي والنّسائيّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشِي وَهُوَ يَقُولُ:
¥