إن الجمع - في تحصيل العلم - بين الدراسة النظامية في الكليات الشرعية و بين ملازمة المشايخ في حِلَق العلم في دروسهم وفي المساجد، قلّ من يستطيعه، وقد كان الشيخ بكر - رحمه الله - ممن أخذ في هذا الباب وضرب فيه بحظ وافر؛ إذ عُرف واشتُهر عنه ملازمته لشيخه محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، فلم ينقطع عنه ولم يتخلف عن دروسه. يقول عنه د. عبد الرحمن السديس في كتابه (ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان) (ص215) معدّداً تلاميذ الشيخ: (الشيخ بكر أبو زيد: صاحب التصانيف الكثيرة، الباحث المحقق، لازم الشيخ - رحمه الله - عشر سنين، ودرس عليه بعض مذكراته في الأصول وآداب البحث و المناظرة دروساً خاصة في المسجد و في منزله - رحمه الله - و درس عليه كتابَيّ ابن عبد البر (القصد و الأمم في معرفة أنساب العرب و العجم وأول من تكلم بالعربية من الأمم) و (الإنباه على قبائل الرواة) وقيّد عليهما بعض التحريرات من دروس الشيخ و النكات وا لضوابط العلمية)
ويقول الشيخ السديس أيض اً: حدثني عبد الله ابن الشيخ محمد الشنقيطي - رحمه الله - أن أباه قال للشيخ بكر: (ما أخذ عني علم الأنساب في هذه البلاد غيرك).
وحدثني - القائل د. السديس - الشيخ الدكتور محمد الحبيب، قال: (لقد شاهدت الشيخ بكر أبو زيد يحضر حلقة الشيخ في التفسير في رمضان لم يتخلف يوماً واحداً) ا. هـ.
من المعالم البارزة في شخصية الشيخ: المعايشة والتفاعل مع الأحداث و الواقع:
كان الشيخ بكر ابن عصره و رجل واقعه، و مراقب أحداثه، فلم يكن بعيداً ولا منعزلاً عن تلك الأحداث والنوازل التي تُطل برأسها حيناً بعد آخر؛ فكانت له مشاركات متنوعة ووقفات راشدة وسَبْر و تحليل لِما يمرّ بالمجتمع، مع ما عرف عنه من عزلة وعدم رغبة في كثرة مخالطة الناس؛ لا ترفعاً و لا تعالياً حاشاه، لكنه اختار طريقاً رآه أنفع؛ يجد نفسه في هو ينفع من خلاله، وقد حصل له ما أراد، بل كانت عنده قناعات شخصية تُحترم و جهة نظره فيها، ومن ذلك أنه عُرض عليه المشاركة في البرامج التي تُقدَّم في إذاعة القرآنا لكريم، و في برنامج (نور على الدرب) حيث عرض عليه الشيخ ابن باز - رحمه الله - المشاركة، ثم عرضها عليه الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، وكان الشيخ يعتذر عن المشاركة، بل حتى في مرضه لم يكن يحب أن يتوافد الناس عليه وتكثر الجموع عنده في بيته أو في المستشفى؛ كل ذلك فراراً من الشهرة و الأضواء، بل قيل عنه: (إنه كان عدو الشهرة) يرفضها و يدفعها ويهرب منها.
وعَوْداً على ما ذكرنا من أن الشيخ كان يعيش عصره و واقعه رغم انشغاله بأعماله العلمية الرسمية والشخصية و بالعلم، و التأليف، و التحقيق، و القراءة، رغم ذلك لم يكن غائباً؛ لا تحرّك فيه النوازل والأحداث التي تمر ببلده أو بالمسلمين شيئ اً؛ بل كان كثير من مؤلفاته انعكاساً و أثراً لحدث أو مناسبة أو ظاهرة تحتاج منه وقفة وكلمة. فعلى [5] سبيل المثال لمَّا قامت الحملة الجائرة على طلبة العلم والدعاة؛ تصنيفاً و تجريحاً و تبديعاً و تفسيقاً، تصدّى لها بكتابه (تصنيف الناس بين الظن واليقين)
ولما رفع دعاة تحرير المرأة عقيرتهم و أجلبوا بخيلهم ورجلهم في كلام على المرأة ووضعها في بلاد الحرمين، قام الشيخ قومة الشجاع النِّحْرير صادعاً بالحق و رادّاً على أهل الباطل بمؤلَّفه القيِّم (حراسة الفضيلة) حتى أُطلق على الشيخ في حياته وفيما كُتب عنه بعد مماته - نثراً وشعراً - (حارس الفضيلة) و ما ذاك إلا لِما تركه كتابه من أثر نفع الله به نفعاً كبيراً.
ولمَّا كَثُر التجنّي على بلاد الحرمين و ضرب التغريب أطنابه ورُميت عن قوس واحدة، وأصبحت العولمة - أو كما أطلق عليها الشيخ في بعض كتبه: الشوملة و الكوكبة - على الأبواب، قام الشيخ في الأمة بمؤلَّفه الرائع (خصائص جزيرة العرب) ذاكراً الضمانات الهامة لحفظ هذه الجزيرة من الأخطار المتنوعة.
ولمَّا رأى الخلط والتلبيس في الشرائع و الدعاوى الجائرة على عقيدة التوحيد، وشريعة الإسلام وتكلم المنهزمون و دعاة التقريب بين الأديان، وقف سداً منيعاً جاهراً بما يدين الله به مما هو الحق وسواه باطل، وأبطلتلك النظرية بصاعقته المرسلة وشهابه الثاقب كتاب "الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام و غيره من الأديان"
ولمَّا رأى - وذلك في بدايات بروزه في مجال التأليف - التخبّط والعِثار الذي أصاب بعض طلبة العلم وعدم وضوح الرؤية أو المنهج العلمي، ألَّف رسالته (حلية طالب العلم) موجّهاً ومربّياً وناصحاً ومرشداً.
ولمّا رأى الانبهار بالألقاب العلمية التغريبية والركض خلف تلك المسميات، أخرج رسالته (تغريب الألقاب العلمية)
ولمّا خشي على الألسنة من المحرَّم و المكروه، ورأى أن هذه الجارحة الخطيرة دبّ إليها المحرَّم وفاهت بالمكروه واستمرأت التساهل، و ظهرت الأسماء والمصطلحات غير اللائقة، أخرج واحداً من أجمل وأبرز مؤلّفاته وهو (معجم المناهي اللفظية)
وأما في مجال التخصّص الفقهي - وهو مجال الشيخ الرّحب - فقد كان مؤسِّساً ومؤصِّلاً ومشاركاً في نوازل الأمة بكتابه (فقه النوازل) الذي دَرَس فيه عدداً من المسائل النازلة.
وفي واحد من المجالات الخطيرة والهامة التي تحتاج شجاعة وعلماً وفقهاً وطول تتبع واحتساباً وأمانة علمية، كان سداً منيعاًفي وجه المحرِّفين والعابثين والمعتدين على كتب التراث.
فجُمعت جهوده في هذا الباب في مؤلَّف كبير حوى عدداً من الكتب سمَّاه (الردود) والواقف عليه يرى فيه دقة و شمولية و طول نَفَس وغَيرة.
وخاتمة المقال ومِسْكه: أن المؤلَّف الذي يصح أنيقال عنه (كل الصيد في جوف الفَرَا) [6] من بين مؤلّفات الشيخ في تقديري، والذي أوضح جوانب متنوعة في شخصيته وأفرز خبرته وعلمه وعقليته وطول باعه وسعة اطلاعه وتَمكُّنه من المذهب الحنبلي هو كتابه: (المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد) ومتمِّمُه كتاب (علماء الحنابلة من الإمام أحمد المتوفى سنة 241 وحتى وفيات عام 1420هـ).
¥