وذكر زكريا بن يحيى الساجي - وهو أحد الأئمة المتقدمين المائلين إلى مذهب الشافعي - أنه لم يخالف في ذلك من الفقهاء المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد من أهل البصرة وما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي وأبو القاسم القشيري وغيرهما: عن مالك وأهل المدينة في ذلك فغلط. وإنما وقعت الشبهة فيه لأن بعض أهل المدينة كان يحضر السماع إلا أن هذا ليس قول أئمتهم وفقهائهم؛ بل قال إسحاق بن عيسى الطباع: سألت مالكا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق وهذا معروف في كتاب أصحاب مالك وهم أعلم بمذهبه ومذهب أهل المدينة من طائفة في المشرق لا علم لها بمذهب الفقهاء ومن ذكر عن مالك أنه ضرب بعود فقد افترى عليه وإنما نبهت على هذا لأن فيما جمعه أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن طاهر المقدسي في ذلك حكايات وآثار يظن من لا خبرة له بالعلم وأحوال السلف أنها صدق). انتهى من مجموع الفتاوى: (11/ 576 - 577 - 578).
* * * * * * *
? من أعد بحث الشيخ؟
في الحقيقة كنت لا أريد أن أتطرق لهذه النقطة لحساسيتها؛ ولكن حين رأيت إصرار الشيخ – عفا الله عنا وعنه - على هذا القول، والتوسع فيه ومحاوله نشره في كل مكان، وإظهاره لنفسه في المقال بصورة العالم الباحث؛ خاصة فيما جاء في بحثه: (قال أبو عبد الإله: فبهذا يتبين لك أنه حين كثر الجدل في هذه الأيام حول ما أبديته من رأي في حل الغناء، أني لم آت بما لم تأت به الأوائل، بل إن الحدث قد كشف عوار أمة تحمل لواء النص، وتزعم اتباعه، وتنهى عن التقليد المقيت، ثم هي تقلد أئمتها دون بحث أو تمحيص).
اضطررت اضطراراً، لا فرحاً واختياراً؛ إلى إظهار هذا الأمر، فقد حدث نقاش بيني وبين الشيخ في هذه المسألة قبل حوالي ثلاثة أسابيع، وكان الشيخ مرتبطاً بموعد مسبق، فدعا أحد الإخوة الباحثين – من أهل اليمن- الذين يعملون معه، وطلب أن يكمل معي النقاش فذكر لي هذا الباحث أن له بحثاً حول هذه المسألة، ثم قام بطباعة البحث، وبدأ يقرأ علي ما جمعه، وبعدها سلمه إلي، وعدد صفحات البحث عشرة صفحات، وكان معي أحد الإخوة ..
ثم إن الشيخ نشر مقاله، وحين راجعت المادة العلمية في مقال الشيخ وجدتها موافقة لما في البحث سوى ذكر المراجع والصفحات.
وللحق قد يكون الشيخ كتب المقدمة أو الخاتمة أو بعض المواطن؛ أما بالنسبة للبحث العلمي وجمع الأقوال والتأكد من صحتها فلا أظن ذلك حسبما جاء في المقال والبحث الذي بحوزتي، والعلم عند الله.
صحيح؛ أن المرء قد يستعين بأحد الباحثين لإفادته، لكن لا بد من الذي يريد نشر البحث وتبنيه؛ أن يتأكد من جميع الأقوال والأدلة التي جمعها له الباحث، وصحة نسبتها، وما سياقاتها، وما قوة مراجعها؟ ومن الأفضل والأحرى أيضاً- ولكي لا يؤخذ بخطأ غيره؛ خاصة إذا كانت مسألة مهمة يتعلق بها مخالفة لإجماع منقول، أو قول لأكثر العلماء - أن يتأنى ويعرضها على العلماء المحققين قبل نشرها، وأن لا يعتد برأيه؛ فآفة العلم الرأي والهوى .. عصمنا الله وإياكم منهما.
* * * * * * *
? بعيداً عن المسائل العلمية:
في ختام هذا المقال أود أن يكون الحديث في هذه النقطة صريحاً من القلب إلى القلب، حديث ننطلق فيه من محبتنا للشيخ وإرادة الفوز والفلاح له في الدنيا والآخرة، حديث لا تنقصه الصراحة فليتحملنا الشيخ فيه وهو أهل لذلك ..
يا أبا عبد الإله إن الغناء الذي أباحه بعض المعاصرين لو اطلع عليه من أباحه قبلهم كابن حزم الظاهري أو ابن طاهر أو الشوكاني لحرموه لما فيه من فاسد القول من التفحش والكلام الرديء والدعوة إلى العشق والغرام، فإذا كنتم توافقونهم على ذلك فبالله عليكم ماذا يغني كلامكم وضوابطكم من غناء هذا العصر؟!
وأين يوجد هذا الغناء الذي تزعمون؟! وما واقع من يسمع الغناء اليوم من الشباب والفتيات ماذا يسمع؟! ولمن يسمع؟!
يا أبا عبد الإله عُرفت منذ زمن بالقرآن وترتيله وتدريسه .. فهل تريد أن تعرف بعد ذلك بالغناء وإباحته؟!
لماذا لم يسعك ما وسع أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم - وسلفهم الصالح من تدافع الفتيا، وإحالتها لمن تصدى لها، أو على الأقل أن تعدها من الشبهات، وتتقيها فهو أسلم لدينك وعرضك ..
يا أبا عبد الإله إن الأمة في هذا الزمن تموج في بحر من الشبهات والشهوات، وتحتاج إلى النهوض بها وإعادتها إلى ريادتها وسيادتها، وإن شباب الأمة هم عمادها وصحوتها، والمتأمل في حالهم اليوم يحزن كثيراً حين يرى تخلفهم وانهماكهم في آلات الطرب واللهو؛ فهم لا ينامون ولا يسافرون ولا يأكلون إلا والأغاني صاخبة في آذانهم؛ فهل هم بحاجة إلى مزيد شرعنة ودفع نحو هذه الهوة السحيقة!
ولقد أثبتت الدراسات الغربية أن الشاب المدمن على سماع الموسيقى والطرب وما تستلزمه من حب وغرام أنه شاب محدود التفكير، وأنه غير منتج، وغالباً ما يكون فاشلاً في مجتمعه .. واسأل الشباب المجرب يُفِدْك بذلك قطعاً!
أليس الأولى بنا يا شيخ أن ندعو الناس إلى سماع القرآن وتلاوته وتدبر معانيه خاصة مع قدوم شهر القرآن؟ وليس بإضفاء الشرعية لهم في عمل المزيد من سماع هذا البريد الخبيث، والتلذذ بإباحته!
أخيراً يا أبا عبد الإله لعلك تكرماً تقف قليلاً مع هذا النص الذي يحمل توقيع الإمام الدارمي، ومن ثم تراجعه وتتأمله حيث يقول: (إن الذي يريد الشذوذ عن الحق يتبع الشاذ من قول العلماء ويتعلق بزلاتهم، والذي يؤم الحق في نفسه يتبع المشهور من قول جماعتهم وينقلب مع جمهورهم، فهما آيتان بينتان يستدل بهما على اتباع الرجل من ابتداعه). (الرد على الجهمية، ص: 129)
تأمل يا شيخ عادل ما جاء في هذا الكلام النفيس من فقه ومنهج!
وأعيذك بالله من الابتداع، كما أسأله – سبحانه - أن يجعلك من المتبعين، وأن تكون من أهل القرآن والداعين إلى تدبره في حياتك كلها، جعلك الله من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته .. اللهم آمين.
http://almisq.net/news-action-show-id-2999.htm
¥