فقد فرح بما وجده في كتب التاريخ والأدب من مادحي الغناء والمعازف أو المشتغلين بذلك، ثم ساق أسماءهم إلى الناس ليقول: هاكم الذين أباحوا الغناء قبلي!
ومتى كانت كتب الأدب والتاريخ مرجعا في مسائل الحلال والحرام؟
ثم إن هؤلاء الذين ساق أسماءهم أصناف:
الأول:
أهل سياسة وأدب، أو ندماء الولاة، أو من كان من خاملي الذكر؛ الذين ليسوا من أهل العلم، ولا من الذين يلتفت إلى وفاقهم بله خلافهم، ومهما استكثر الشيخ عادل منهم أو أضفى عليهم ألقاب الثناء والمدح فلن ينفعه ذلك شيئا عند أهل العلم، وإن كان قد يُخدع بذلك الأغمار.
ولو شاء معارضه أن ينقل عن عدد كهؤلاء بل وأضعافهم ممن حُشيت بهم كتب الأدب والتاريخ ممن مدحوا الخمر أو معاشرة المردان لفعل!
أفيريد الشيخ عادل أن ينقض الإجماع الذي نص عليه الراسخون من أهل العلم بأمثال هؤلاء؟!
والصنف الثاني:
من يترخص في السماع البدعي ويشارك فيه أهل البدع الذين يتدينون به -كما نقله عن ابن الدجاجي، وأبي مروان القاضي-.
وإني لآسف أن يوقع حبُ الانتصار الشيخَ عادلا في هذا الأمر؛ فهل يوافقهم على ما هم عليه؟
فإن كان الجواب بالإثبات فهي مصيبة، وإن كان بالنفي فما فائدة هذا النقل عنهم إذن؟
والصنف الثالث:
علماء أثبات؛ لكنه لم يحقق في شأنهم ثلاثة أمور:
الأول: ثبوت النقل عنهم؛ وهو مطالب بذلك، وإلا فالاستشهاد بهم لا يستقيم.
والثاني: أن يثبت أنهم يبيحون الغناء المحرم لا الحلال؛ إذ الغناء الحلال كما سبق قد نُقل الاتفاق على حله؛ وليس هذا محل البحث.
والثالث: أن يثبت أن ما ينقله عنهم هو مذهبهم؛ فبعض ما ينقله عنهم إنما هو وقائع أعيان لا يثبت بها مذهب العالم؛ كما نقل عن شعبة أنه سمع طنبورا في بيت المنهال بن عمرو! فكان ماذا؟ أين الدليل على أنه كان يرى حل ذلك؟ فهو غير معصوم؛ وقد يفعل المرء المحرم وهو يعلم تحريمه لغلبة هواه، وقد لا يكون المنهال عالما بما حصل في بيته، أو غير موجود فيه أصلا! ولذا لما قال شعبة لوهب بن جرير -كما عند العقيلي في الضعفاء (4/ 236) -: (أتيت منزل المنهال بن عمرو فسمعت صوت طنبور فرجعت ولم أسأله؛ قال له وهب: هلا سألته؛ فعسى كان لا يعلم!). قال ابن القيم تعليقا على هذه القصة في حاشيته على مختصر سنن أبي داود (13/ 64): (وقد يمكن أن لا يكون ذلك بحضوره ولا إذنه ولا علمه). وقال الشيخ الألباني: (ومنه يتبين أنه لا يجوز حشر المنهال هذا في زمرة القائلين بجواز الاستماع لآلات الطرب فضلا عن استعمالها؛ لاحتمال أنه وقع ذلك دون علمه أو رضاه) (تحريم آلات الطرب 104).
وسيأتي عن قريب نماذج لما اشتملت عليه الوريقات من الكذب الملصق بأهل العلم.
الوقفة السادسة:
اعتمد الشيخ عادل في كثير مما ساق -أو أكثره- على ابن طاهر المقدسي والأدفوي، وقد نعت الأول بالإمام الحافظ، والثاني بأنه من أئمة الشافعية وفقهائهم.
ولا ينبغي أن يُؤخذ ما دُون في كتابيهما على محمل التسليم بلا تحقيق.
فابن طاهر ظاهري صوفي
، وقد ألف في التصوف؛ وكثير من الصوفية يتعبدون بالغناء والعزف؛ فالاعتماد عليه في هذا الباب غير متجه.
ثم إنه كما قال الذهبي في الميزان (3/ 587): (ليس بالقوي، فإنه له أوهام كثيرة في تواليفه، وقال ابن ناصر: كان لُحْنة، وكان يُصحِّف ... قلت: وله انحراف عن السنة إلى تصوف غير مرضى).
ولكثير من أهل العلم قدح شديد فيه؛ قال الأذرعي الشافعي (كما في كف الرعاع 279):
(وابن طاهر الذي تبعوه وإن كان مكثرا فليس بظاهر النقل، وفي كتابه صفة التصوف وكتابه في السماع فضائح وتدليسات قبيحة لأشياء موضوعة).
وقال الهيتمي في كف الرعاع (308) (وأما ابن طاهر فإن العلماء بالغوا في تضليله وتسفيهه). ثم استطرد في تشديد النكير عليه، وذكر ما ينسب إليه من القبح والأمر الشنيع، ويُنظر في نسبتها إليه أيضا ما جاء في ترجمته في البداية والنهاية والوافي بالوفيات وغيرهما.
¥