" كذلك أيضاً من التشديد في العبادة، أن يشدد الإنسان على نفسه في الصلاة أو في الصوم أو في غير ذلك مما يسره الله عليه، فإنه إذا شدد على نفسه فيما يسره الله فهو هالك.
ومن ذلك ما يفعله بعض المرضى - ولا سيما في رمضان - حين يكون الله قد أباح له الفطر وهو مريض، ويحتاج إلي الأكل والشرب، ولكنه يشدد على نفسه فيبقى صائماً، فهذا أيضاً نقول إنه ينطبق عليه الحديث: هلك المتنطعون.
ومن ذلك ما يفعله بعض الطلبة المجتهدين في باب التوحيد؛ حيث تجدهم إذا مرت بهم الآيات والأحاديث في صفات الرب عز وجل جعلوا ينقبون عنها، ويسألون أسئلة ما كلفوا بها، ولا درج عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم، فتجد الواحد ينقب عن أشياء ليست من الأمور التي كلف بها تنطعاً وتشدقاً، فنحن نقول لهؤلاء: إن كان يسعكم ما وسع الصحابة رضي الله عنهم فأمسكوا، وإن لم يسعكم فلا وسع الله عليكم، وثقوا بأنكم ستقعون في شدة وفي حرج وفي قلق ...
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الطلبة من إدخال الاحتمالات العقلية في الدلائل اللفظية؛ فتجده يقول: يحتمل كذا ويحتمل كذا، حتى تضيع فائدة النص، وحتى يبقى النص كله مرجوجاً لا يستفاد منه. هذا غلط. خذ بظاهر النصوص ودع عنك هذه الاحتمالات العقلية، فإننا لو سلطنا الاحتمالات العقلية على الأدلة اللفظية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما بقى لنا حديث واحد أو آية واحدة يستدل بها الإنسان، ولأورد عليها كل شيء، وقد تكون هذه الأمور العقلية وهميات وخيالات من الشيطان، يلقيها في قلب الإنسان حتى يزعزع عقيدته وإيمانه والعياذ بالله.
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض المتشددين في الوضوء، حيث تجده مثلاً يتوضأ ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر، وهو في عافية من ذلك. أيضاً في الاغتسال من الجنابة، تجده يتعب تعباً عظيماً عند الاغتسال، في إدخال الماء في أذنيه، وفي إدخال الماء في منخريه.
وكل هذا داخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون. هلك المتنطعون. هلك المتنطعون)
فكل من شدد على نفسه في أمر قد وسع الله له فيه فإنه يدخل في هذا الحديث " انتهى باختصار.
- ثانيا:
أما الالتزام بشعائر الدين الظاهرة، والمحافظة على حدود الله، وامتثال أوامره، فهذا من واجبات الدين، وسبيل دخول جنة رب العالمين، ولا يعدها مِن التنطع إلا مَن يريد التحلل من الشريعة، والطعن في الأحكام الثابتة؛ فإن التنطع المذموم هو خروج عن قانون الشريعة وآدابها، فكيف يكون التزامها، والتمسك بها، والعض عليها بالنواجذ تنطعا؟!!
والحَكَمُ الفصل في ذلك هو الأدلة من الكتاب والسنة، فما جاءت به الأدلة الصحيحة الظاهرة بإيجاب شيء – كغطاء الوجه وإعفاء اللحية –، أو تحريم شيء – كتحريم المعازف والاختلاط بالنساء ونحوه – فهذا لا يجوز وصفه بالتنطع والتشدد، إذ يلزم منه اتهام النبي صلى الله عليه وسلم - الذي أمرنا بها - بأنه متنطع!! وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك.
أما ما لم تأت به النصوص، وكان من أحد الأوجه الأربعة السابقة في تفسير التنطع، فهذا هو ما ينبغي ذمه واجتنابه، ولا يخلط بينه وبين أحكام الشريعة الظاهرة الثابتة.
- ثالثا:
أما حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنْ الْآخَرِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ) رواه البخاري (3367) ومسلم (2327)
فلا يعني بوجه من الوجوه التخلي عن الشريعة، والتقصير في الواجبات، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على تحقيق العبودية لله بجميع لوازمها، ولكن المراد بقوله (بين أمرين) أي من أمور الدنيا التي ليس للشرع فيها أمر أو نهي، أو من الأمور التي يسع فيها الاختيار من السنن والمستحبات، أما إذا جاء التكليف بالوجوب أو التحريم فيجب الوقوف عنده من غير تعد ولا تقصير.
يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 575):
" قوله: (بين أمرين) أي: من أمور الدنيا، يدل عليه قوله: (ما لم يكن إثما)؛ لأن أمور الدين لا إثم فيها، وقوله: (ما لم يكن إثما) أي: ما لم يكن الأسهل مقتضيا للإثم، فإنه حينئذ يختار الأشد. وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط: (إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط) " انتهى.
والله أعلم.
فائدة من موقع سؤال وجواب
الرابط ( http://islamqa.com/ar/ref/103889)