قال البزازي في "فتاويه": ولما عُلِمَ أنّ حرمَتَهُ بالإجماع لزم أن يكفّر مُسْتَحِلَّه.
وقال به القاضي عياض المالكي، بل حكى الإجماع على كفر مستحله.
وحكاه ابن الحنبلي، كما نقله ابن رجب- رحمه الله- في كتابه " ذيل طبقات الحنابلة " عن ابن قدامه.
وإن كان هذا القول ليس على الصواب، بل أن فيه تشدداً، وذلك أن الكفر بعيد، وإنما هو هوى وجرمٌ وذنبٌ، وقد عدّه غير واحد من الأئمة من كبائر الذنوب كابن النحّاس في كتابه " تنبيه الغافلين "، وابن حجر الهيتمي في كتابه " الزواجر " عدّوا سماع الغناء من الكبائر.
11 - ينقل العلماء أن السماع هو مذهب أهل الحجاز، فأي سماع أرادوا؟ الجواب: أرادوا السماع الذي قد أطبق عليه الناس الآن في وقتنا عامّة، من المبالغة بسماع الحداء والأناشيد وغيرها.
وقد سُئِل الإمام مالك- رحمه الله- عن الغناء فقال: (إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق).
وسُئِل الإمام الشافعي- رحمه الله–: حيث سأله يونس، فقال: سألت الشافعي عن السماع الذي أراده أهل المدينة؟ فقال الشافعي - وهذا نقل نفيس عنه -: (لا أعلم أحداً من أهل المدينة كره السماع إلا ما كان على الأوصاف، وأما ما كان من إنشاد الشعر والحداء وذكر المرابع، فإنه مباح)، إذاً المراد بذلك كلّه لا يخرج عن الكلام الملحّن.
ويوهم كثير من النقلة أن المراد بالسماع عند أهل المدينة هو المعازف وآلات الطرب، وهذا جهل شنيع، فما قال بذلك أحدٌ معتبر.
بل قال ابن حجر الهيتمي في كتابه " كف الرعاع ": (لم يحفظ عن أحد ولم يرو عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة المجتهدين من قال بإباحة المعازف).
وقد لبس – أولُبِّس على - كثير ممن صنّف في إباحة اللهو والغناء حيث أدخلوا عن هوى أو شبهة مسألة المعازف والموسيقى فيها، ولا علاقة لها فيه.
وقد نظرت في المصنفات التي صنّفت في هذا الباب، فرأيت أن من ذكر الموسيقى فيها لا دليل في كتابه كلّه على شيء من ذلك، وأنه يستدل ببعض الألفاظ التي جاء فيها ذِكر الغناء، وذلك لا يعدو كونه شعراً وحداءً، ومن نظر إلى أشعار العرب وكتب اللغة وجد ذلك ظاهراً.
12 - يستدل المجيزون ببعض الأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فمنها ما جاء في الصحيح من حديث عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: دخل عليَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- وعندي جاريتان تغنيان بغناءٍ بعاث، فدخل أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: ((دعهما)). مغنيتان تغنيان: المراد بالغناء هو الحداء، وهذا معلوم ولا ريب فيه، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل اللغة، وإنما خالف فيه من جَهِل الاصطلاح ممن تأخر.
فيقال أولاً: إن ذلك ليس فيه دليل، فليس ثمّة آلة لهوٍ؛ لا مزمار ولا طبل ولا غيرها.
الأمر الثاني: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان سامعاً، ولم يكن مستمعاً، ومعلوم أن ثمّة فرق بين السماع والاستماع.
فالسماع: هو أن ينفذ إلى سمع الإنسان شيء من غير اختياره ومن غير إنصات.
فإن الله عز وجل قد حرّم الغيبة والنميمة وحرّم الاستماع إليها، والجلوس عند من يخوض في كلام الله عز وجل استهزاءاً، وقد ينفذ إلى مسَامِعِهِ شيء من الحرام ولا يأثم بذلك.
وهذا نظير المُحرم حينما يأتي إليه من رائحة الطيب مما لا يتعمّده شمّاً، ولا يلحق في ملابسه فليس عليه شيء.
ويقول ابن قدامة رحمه الله: (ومن لا يفرّق بين السماع والاستماع فإن ذلك جاهل، وليس أهلاً للفتيا).
13 - سماع عائشة للمغنيتين اللتين تغنيان عندها بغناء بعاث ليس المراد بذلك المعازف بالإطلاق، وذلك أن عائشة تنكر الزيادة في الإطراب بالقول، فكيف بالمعازف أيضاً؟ فقد روى البيهقي – كما تقدم – من حديث بكير بن الأشج عن أم علقمة: (أن عائشة قد خُفِضت بنات أخيها– القاسم بن محمد – فتألمنَ، فقيل: نأتي بمغني يلهيهنَّ، فقالت: ائتوا بفلان، فجيء به فأخذ يغني، فرأته عائشة وهو يهز رأسه وشعره طويل، فقالت: أخرجوه! شيطان شيطان).
14 - وحينما يستدل البعض ببعض المرويات مما جاء عن بعض السلف كعبد الله بن عمر، أو عبد الله بن أبي جعفر بن أبي طالب، أنه كان يستمع الغناء ونحو ذلك، فيقال: ما المراد بالغناء هنا؟ نص القشيري في رسالته: (أن ما روي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن أبي جعفر بن أبي طالب من جملة سماع الأشعار بالألحان).
ليس المراد بذلك –قطعاً - الغناء المحرم والمعازف.
ولذلك يقول ابن رجب في رسالته في " السماع " ((وقد روي عن بعض السلف من الصحابة وغيرهم ما يوهم عند البعض إباحة الغناء، والمراد بذلك هو الحداء والأشعار)).
وابن قدامة- رحمه الله- قد عنّف على ابن الحنبلي إذ فَهِمَ منه غير ذلك الفهم.
هذا ما تيسر تلخيصه, والله أسأل التوفيق والسداد في الدارين,,,
¥