[الفطرة المحروسة والفطرة المنكوسة]
ـ[عمر بن عبد المجيد]ــــــــ[24 - 06 - 10, 11:12 م]ـ
هذه مقالة رائعة للشيخ الدكتور عبد المجيد البيانوني
شتان بين فطرة محروسة وفطرة منكوسة.!!
قالت لي طفلتي التي لم تتجاوز السابعة من العمر، بعدما أوت إلى فراشها: بابا ما معنى كلمة ذكر الله.؟ فقلت لها: ذكر الله يا حبيبتي هو أن يتذكّر الإنسان ربّه ولا ينساه ..
قالت: أقصد ماذا يقول.؟
قلت: يقول: " لا إله إلاّ الله .. أستغفر الله العظيم .. سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر .. والصلاة على النبيّ ? من ذكر الله "
وانشغلت عنها قليلاً، ثمّ التفتّ إليها بعدما لفت نظري هدوؤها غير المعتاد، فإذا بها ترفع يديها الصغيرتين، وتسبّح بأصابعها في استغراق والله لا يصدّق، ولا يتناسب مع سنّها مطلقاً .. فدمعت عيني لهذا المشهد، وتوجّهت إلى الله تعالى بدعاء ضارع خاشع أن يجعلها قرّة عين لنا في الدارين، وأن ينبتها نباتاً حسناً ..
وقبل هذا الموقف بيومين قالت لي: يا أبي أنا أتمنّى أن أموت بعدما ولدتّ فوراً .. فقلت لها: لماذا.؟! قالت: لأدخل الجنّة .. فقلت لها: ولكنّ الأحسن من هذا أن تكبري، وتعبدي الله، وتعملي أعمالاً صالحة، وتتزوّجي، ويكونَ لكِ أولاد وأحفاد مثل أمّك إن شاء الله، كلّهم يوحّدون الله، ويعبدونه، ويعملون أعمالاً صالحة ترضيه ..
حدث لي هذان الموقفان قريباً مع طفلتي الصغيرة، وأحسب أنّ كثيراً من الأسر المسلمة المهتمّة بتربية أولادها يحدث لها مثل ذلك، وأكثر منه وأعجب ..
فكم في المسلمين من أطفال يحفظون القرآن الكريم كاملاً، ولم يتجاوزْ سنّهم السابعة.؟!
وكم في المسلمين من أطفال يحفظون أكثر القرآن الكريم، ولم يتجاوزْ سنّهم السابعة.؟!
وكم في المسلمين من أطفال علائم النبوغ والنضج والرجولة تبدو عليهم؛ في أسئلتهم وأجوبتهم، وفي مواقفهم وشخصيّتهم، وفي حلّ المشكلات التي تعترضهم.؟!
وكم في المسلمين من أطفال يتحمّلون مِن المسئوليّة ما لا يتحمّله الكبار، فيقومونَ بها بكفاية واقتدار.؟! وربّما لم ير أحدهم من الكبار إلاّ التقريع والملامة ..
وكم في المسلمين من أطفال عباقرة مبدعين، لم يروا من أهلهم، ومن المجتمع حولهم إلاّ الكبت لمواهبهم، والإهمال والتنكّر.؟!
وكم في المسلمين من أطفال لهم مواهب فذّةٌ، لم تتهيّأ لها الرعاية المناسبة، فقُتلت مواهبهم ووئدت.؟! ومعَ ذلك كلّه ففي بيئاتنا الإسلاميّة ومجتمعاتنا خير كثير، وإيجابيّات لا تنضب ..
تواردت في نفسي هذه الخواطر، وأنا أقرأ خبرين عن أطفال في الغرب، مفاد أحدهما أنّ أطفالاً صغاراً جدّاً في السن يتفوّهون بعبارات وتصرفات جنسية فاضحة، وتبدر عنهم تصرّفات مبتذلة تجاه زملائهم ومدرّسيهم، الأمر الذي ينجم عنه فصلهم من دور الحضانة والمدارس، عدّة مرّات، أو فصلهم نهائيّاً ..
ومفاد الخبرِ الثاني أنّ فتىً يبلغ 15 عاماً من العمر أدين بقتل طفلة عمرها سنتان، تركت تحت رعايته لـ 90 دقيقة فقط. وقام الفتى بضرب " ديمي ماهون " وعضّها، وجزّ شعرها خلال الهجوم الذي خلف 68 جرحاً في جسدها، حسبما كشف عنه في محكمة بمدينة مانشستر في بريطانيا. ولم يشرح الفتى على الاطلاق دوافع إقدامه على قتل ديمي، لكنّه لمّح أمام المحكمة إلى أنّه كان غاضباً من سلوكها ..
كما قرأت من قبل عدّة أخبَار عن أطفال في عمُر الزهور قتلوا رفاقهم بأسلحة ناريّة، في حوادث متكرِّرة، أخَذت تشكّل في الغربِ ظاهرةً مقلقة ..
قارنت بين الصوَر الأولى وبينَ هذه الصور، وقلت: إنّ الفرق بين هذين النوعين من الأطفال هو الفرقُ بين الفطرة المحروسة والفطرة المنكوسة .. الفطرة المحروسة بالتربية السليمة، والأخلاق القويمة، والفطرة المنكوسة عن سنن الفطرة، بمؤثّرات البيئة التي تعجّ بالمشكلات المستعصية، والعلل الفتّاكَة .. وتذكّرتُ حديث النبيّ ?: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ .. ) ().
وأنا لا أنكر أنّ تلك المجتمعات تولي الطفولة عناية فائقة، ورعاية متميّزة، ولكنّها عناية من وجهتها الظاهريّة، وفلسفتها المادّيّة، وبما يخدم تلك الوجهة، وينمّيها فحسب، ولا مكان فيها للقيم الروحيّة، التي هي سرُّ ضبطِ الحياة المادّيّة، وتوجيهها الوجهة الصحيحة .. كما لا أنكر أنَّ أوضاع الطفولة في بلادنا ليست على ما يرام على وجه العموم من حيثيّات متعدّدة، ومع ذلك فأقول:
إنّ لنا أن نعتزّ ببقيّة الخَير فينَا، ونسعى لتنميتها ورعايتها، لأنّها أصل للتوازن الحكيم بين الحياة المادّيّة والروحيّة، ونواةٌ يمكن أن يقومَ عليها بناء رَشيد، وصرحٌ مَشيد، ولأنّنا أحوجُ ما نكونُ إلى تقويةِ الثقة بأنفسِنا، والاعتزازِ بقيمنا، من أنْ تكونَ أبصارُنا مشدودَة دائماً إلى هناكَ بكلّ شَيءٍ، وبعجر الأمور وبجرها، ومزدريةً لما نحن عليه في كلّ شَيءٍ .. فجلد الذات لا يحيي أمّةً، ولا يبني نهضةً.
¥