وهل فتَّشتم في كتب سلفنا وآثارنا وتراثنا عن مظاهر التفكير الإبداعي وخدمة الأمَّة المسلمة فيه وخصوصاً من فئة الشباب؟
وهل طالعتم كتب التأريخ والسير والمغازي وجمعتم الأسباب الحقيقيَّة لالتهاء الشعوب بأمر دنياها وقيام قلَّة قليلة منها بمقاومة النتوءات الفكريَّة، والخروقات الثقافات، وماذا كان دور عموم الناس في مناصرة علمائهم ومفكريهم حينما يصدعون بالحق، وما أسباب وقوفهم من عدمه؟
إلى غير ذلك ممَّا يخدم أمَّتنا وواقعها الفكري المعيش، وخصوصاً حينما ندرك أنَّ (العمل الجوهري للمفكر هو صناعة المفاهيم) [3]، وهي الطريقة الفعليَّة للاستنباط من تلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الكثير من المفاهيم التي تهمنا في مجتمعنا بشتَّى اهتماماته.
وبالطبع كنت أجد الجواب مختلفاً بين ألسنة الشباب، ولكنّي وجدت إجماعاً واضحاً على التقصير بقراءة كتاب الله ومطالعة التفاسير لفهمه، وما في سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما يمكن الاستعانة به من شروحات كتب الحديث لفهم معانيها.
ووجدت بعضهم وكأنَّ الأمر لا يعنيه، فهو يفهم القرآن وقد قرأه سابقاً لمرة أو مرتين، وقرأ الأربعين النووية وشيئاً من رياض الصالحين، ولكنَّ الأهميَّة الكبرى لديه الآن في مطالعة الكتب الفلسفية وغيرها من المفاهيم التي تتحدث عن الديناميكية والحيوية والارستقراطية والأتوقراطية والثيوقراطية والبيوقراطية والمادية الجدلية ونشأة الحضارة، وقراءة تاريخ الصناعة والعمران المدني إلى غير ذلك من اهتمام هو أكبر وأوثق من اهتمامهم بقراءة القرآن والسنَّة.
وهذا بالفعل شيء حاصل فالكثير من هؤلاء باتوا يهربون من مطالعة النصوص الشرعية من كتاب الله وسنَّة رسوله ويستشهدون بها، ويحاولون أن يأتوا بآراء فلسفيَّة وحجج كلامية، وأحسنهم حالاً من لا يأبه بذكر النصوص الشرعيَّة بل يهتم بالمقاصد وفقه المقاصد، ويحاول أن يقفز على هذه النصوص بما يراه هو أنَّه من مقاصد الشريعة، وعندئذٍ تذكرت قول الفاروق عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم" [4].
إنَّ ما ذكرته من حالة مأساوية وقع فيها الكثير ممَّن يعدون أنفسهم فلاسفة وأهل رأي حصيف وفكر مكين، لكنَّ إدبارهم وإعراضهم عن الاهتمام بنصوص الوحيين تأملا وتدبراً وتفكراً وإسقاط هذه النصوص على الواقع، ومعالجة الواقع بالأدلة الشرعية بات شيئاً ضعيفاً، وصار الكثير منهم يستروح للحديث الإنشائي أو لذكر حِكَمِ وتجارب الفلاسفة، ومن لطائف ما حصل أثناء كتابتي لهذا المقال أن أرسلته لأحد أصدقائي المصريين المثقفين والمتميزين في المجالات الفكرية والفلسفيَّة، وحينما قرأ المقال وانتهى منه أرسل لي رسالة يقول فيها: (لكني أوافقك تمام الموافقة فيما ذهبت إليه، ووالله إني لأعاني من ذلك في الجمعية الفلسفية التي أحضر ندوتها كل شهر والتي يرأسها الدكتور حسن حنفي؛ حيث لا كلام إلا عن الغرب وأعلامهم، ومذاهبهم من الكلاسيكية حتى الحداثة وما بعد الحداثة ... كلها أمور تقسي القلب إلى جانب أنها لا تقيم نهضة للأمة!)
· فليكن الفكر منطلقاً من أساس متين:
قد يقول قائل: وهل يُراد من عموم الشباب العربي المسلم المثقف أن يكونوا علماء في الشريعة، فإنَّ هذا لا يتأتَّى ولا يمكن، ونحن بالفعل بحاجة لشباب مثقف ومفكر؟
وبالطبع، فإنَّ الأمَّة الإسلاميَّة ليست بحاجة للعلماء الفقهاء فحسب، بل هي كذلك بحاجة للشباب المثقف الواعي والمفكر بقضايا أمَّته والذي يندمج في واقعها الحيوي ويناقش مشاكلها بعمق وموضوعية وشفافية، لكن مع وجوب المواظبة على ورد يومي من قراءة كتاب الله وشيء من تفسيره مع التدبر بما فيها، ومطالعة شيء من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وقراءة سيرته العطرة، فالمنتسبون لأمَّة الإسلام يجب عليهم أن يكون لديهم التصاق تام بهذا الإرث (كتاباً وسنة) فهو عصمة لهم من الفتن، ووقاية لهم من مضلات الأهواء، خصوصاً حينما يحسن القارئ لهما التعامل معهما.
¥