تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وعندما عزفت عن استماع الطرب - ومنه ما هو أقبح من مواء القطط، ومنه ما هو في منتهى الجمال يحرك وجداني - مرضاةً لربي لم أكن بعدُ اجتهدت في تحقيق النصوص الواردة في الغناء، ولا ريب أن اجتهاد من بلغ سن الورع، وأيقن بقرب الرحيل غير اجتهاد من كان في فوعة الشباب محكوماً بالإلف والعادة والتقليد لمن يحب .. نعم لم أكن اجتهدت بعد في ذلك، ولكن الأمر كان مني عزوفاً نفسياً؛ لأنني لم أستمتع بالقرآن الكريم في تذوُّق أسلوبه، وفهم معانيه واستنباط براهينه، والتفاعل مع ما فيه من أشواق القلب والروح وإن كنت أُدندن من خلال المذياع (بتفسير التفاسير)؛ فذلك جدل عقلي علمي لم أُحسّ قط أنه لامس قلبي مع ما فيه من جهد، وكانت النية غير خالصة؛ لأنني أتقاضى من الإذاعة أجراً مالياً، وكان دافعي للبرنامج الحاجة، ولأن السمعة وبعد الصيت مما لا أكرهه .. وما وجدتُ لتلاوتي للقرآن، ولا بمراجعتي كتب التفسير، ولا لممارستي بعض العبادات لذة كهذه اللذة التي وجدتها بعد أن هجرت الغناء .. بل ثبَّت الله يقيني وله الفضل والمنة؛ فكان خبر ربي المُغيَّب كالحقيقة العيانية أمام ناظري بلا ريب، وكان كمال الله المطلق وتنزُّهه المطلق أمرين يجيشان في قلبي ولا يقدر عقلي على إحصاء ذلك أو تصوره إلا بالتقديس المطلق و التحميد المطلق كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، ثم جمَّعت الرسائل والمؤلفات والبحوث في الغناء، وعهدت بتحقيق بعضها إلى عدد من الزملاء بإشرافي، وأدمنت التصفح في أزمان متوالية لهذه المصادر ولا سيما كتاب الإمتاع للأدفوي؛ فتبين لي من الناحية الشرعية ما يلي:

1 - أن هذه المسألة الخلافية لم يقل فيها أحد من العلماء بإباحة الغناء على الإطلاق، بل لكل عالم استثناءاته، فمنهم من يبيح السماع من جاريته ولا يبيحه من غيرها، وهكذا كان صنيع الإمام أبي محمد ابن حزم مع جاريته ضُنى العامرية - رحمهما الله تعالى -؛ فقد كانت تجيد العزف على العود يوم كان العود زريابياً على أربعة أوتار.

2 - أن أسباب حدَّتي في النقاش لما كنتُ أبيح بعض الغناء ولا سيما مع الشيخ حمود التويجري - رحمه الله تعالى - أنني وجدت يبوسة وتضييقاً على المسلمين في أشياء من الغناء لم يرد نص شرعي بتحريمها؛ فهذه لا تُعالج بالتحريم، وإنما تُعالج بالوعظ الفكري عما هو أولى وأحمد عقبى .. وكنت أُلح على أن ما حرَّمه الله من الغناء فقد حرَّمه لغيره؛ فإذا سَلِمْنا من الغيريات المحرمة كمصاحبة الخمر والزنا ومجون الكلمة وتجديفها فلا نُحرِّم من الغناء إلا ما قطعنا بتحريمه دلالة وثبوتاً .. وأما غناء الدراويش فهو مرفوض جملةً وتفصيلاً، وفيه افتيات على الله بتسميته ذِكراً، وفيه تهويمات صوفية قد تصل إلى الحلول والاتحاد والتوسلات المحرمة والغلو مع التمايل العنيف والهياج المثير للغثيان، والانتقال من (الله حقاً) إلى (هو هو) إلى (أو أو) إلى (آ آ)؛ فهكذا أصبح التلاعب باسم الجلالة إلى هذا الحد.

3 - حديث هشام بن عمار - رحمه الله تعالى - لا شك في صحة ثبوته .. رواه البخاري في صحيحه؛ فقال: (وقال هشام بن عمار)؛ فهشام شيخ البخاري - رحمهما الله تعالى -، وقد ثبت سماعه منه؛ فإذا قال البخاري عن شيخه: (قال فلان) ولم يقل: (حدثني) فقد أخذه عنه مناولةً أو عرضاً أو مذاكرةً، وكل هذا من الإسناد الصحيح المتصل، وقد رُوي بأسانيد صحيحة ليس فيها تعليق؛ وإنما حملتُ الحديث دلالة لا ثبوتاً على قاعدة صحيحة، وغفلت عن علاقة صحيحة أيضاً؛ فالقاعدة الصحيحة أن كل جريمة أكبر من العقوبة الشرعية في الدنيا؛ فالقاتل عمداً يُقْتل قصاصاً؛ فهذه مُعادلة ومماثلة .. على أن القاتل اجترم أكثر من ذلك بمخالفته أشياء نهى الله عنها كثيرةً؛ فقد نهى عن الغضب، وأمر بالصبر والعفو، ونهى عن هوشة الأسواق، وعن حمل السلاح مازحاً أو جاداً .. إلخ؛ فما سوَّلت له نفسه القتل عمداً بغير حق إلا بعد تخطِّيه كل هذه الحُجَز .. وعقوبة قوم لوط ليست من أجل اللواط وحده، وعقوبة قوم شعيب - عليهما السلام - ليست من أجل نقص الميزان وحده، بل كفرهم ومحادَّتُهم لله، وإيذاؤهم لوطاً وشعيباً - عليهما وعلى نبينا محمد وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام - كل ذلك هو الجريمة التي أوجب الله بها العقوبة ..

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير