مقال: [ما ألذَّ (ثناء الناسِ)]!
ـ[خليل الفائدة]ــــــــ[01 - 07 - 10, 07:26 م]ـ
يا طالبَ العلمِ: فكِّر في مجالٍ (غيرِ العلمِ) لتُحَقِّقَ النَّجَاحَ والرِّضَا، فما ألذَّ (ثناء النَّاس)!
مَدْخَلٌ:
[يا طالبَ العلمِ:
سَبَقَ المُثَقَّفُون، وأنتَ قاعدٌ بين دَفَّاتِ الكُتُبِ، تراجعُ - يا مِسكينُ - مسائلَ المذهبِ، وتصحيحاتِ ابن رجب، واختيارات ابن تيميَّة، وتعليقات الذهبيِّ، ودُرَرَ ابن القيِّم، وتحقيقات الشاطبيِّ، ترجيحات ابن عثيمين، وتؤرِّقُكَ قضيَّةُ " نَفْعِ النَّاس" بالوعظِ والتعليمِ!
دونَكَ الأسهلُ المفيدُ.
أين زميلُكَ محمَّدٌ؟
قد كانَ معك ذاهباً آيباً إلى حِلَقِ العِلْمِ؛ لكنَّه نشط من عِقَالِه، فقرأ كتابَيْنِ ثقافِيَّيْنِ، وبدأ يكتُبُ في صحيفةٍ، بزاويةٍ مُلْفِتَةٍ، هنئياً له المالُ والشُّهْرَةُ!
أين رفيقُكَ خالدٌ؟
كم قد سمرتَ معه الليلَ، وأنتما تقرآن كتاباً في الآداب، وتتذاكرانِ المحفوظ من المسائلِ؛ لكنَّهُ فاقَك عقلاً؛ وجالسَ غيرَ العلماءِ؛ فأيقنَ أنَّ شيوخَه قد بلغوا من التحجُّر غاية، ورفعوا للتشدُّدِ راية؛ فراجعَ كلاماً للعلماء، ثمَّ حبَّرْ مسائلَ في العِلمِ غريبَة، وبحثَ أقوالاً تراها مُريبَة، فنامَ طالِباً واستيقظَ مُرَجِّحاً، وأضحى - بين الرُّعاعِ - مُزَكَّى بالعلمِ مُمَدَّحاً؛ لخروجِه عن المألوفِ بأنواعٍ من الأدلِّة، وإشباعِ رغباتِ النَّاسِ بالأقوالِ المُسْتَلَّة، هنئياً له السُّمْعَةُ والشُّهرَةُ!
لولا المشقَّةُ سادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ ** [فابحَثْ غَرائبَ عِلْمٍ تَحْظَ بالرُّتَبٍِ]
أرأيتَ كيفَ عَرَفُوا السبيل، وتركوا الثقيل؟!
فالأمرُ لا يحتاجُ سوى كلماتٍ تحفظُها، وآراء تتصوَّرُها؛ فلا تلبث أن تكونَ كاتبَ " منتدى "، فـ" صحيفةٍ إلكترونيَّةٍ "، فـ" صحيفةٍ سيَّارةٍ "، وستكون ذا صِيْتٍ، وذِكْرٍ حَسَنٍ عمَّا قريبٍ، فماذا قدَّمتْ لك دراسةُ العلومِ الشَّرعيَّةِ والمسائلِ؟! عناءٌ لا ينقضي!
وإيَّاكَ، وأن تحافظَ على اسمكَ " طالب علمٍ "؛ فقد أضحى لقباً غيرَ مرغوبٍ فيه، ولا مأسوفٍ على استبدالِهِ، وعليكَ بـ " مُثَقَّفٍ "، أو " باحثٍ في الشُّؤون ... "، أو " كاتب "، أو " أستاذ ". هذا إن كنتَ لم تنَلْ لقبَ الدكتوراة، أمَّا إن تَدَكْتَرتَ؛ فلا تَنْمْ حتَّى تعلِّقَ على سريرِ نومِكَ: "سريرُ الدُّكتور".
ولا تنسبْ نفسَكَ لمدرسةٍ أبداً، وإن كنتَ ذا وفاءٍ؛ فادعُ لمن كان له فضلٌ عليك، أما أن تُفْصِحَ عن كونِكَ درستَ على شيوخٍ ليس لهم إلاَّ "حرامٌ " و " حلالٌ " = فنسبةٌ غيرُ مناسبةٍ لما أرشِدُكَ إليه!
والآن ماذا تنتظرُ يا طالبَ العلمِ؟
رصيدُكَ البنكيُّ قليلُ المالِ، عليكَ ديونٌ، لا يأتي آخرُ الشَّهرِ إلاَّ وأنتَ تقترضُ، وإن كنتَ ذا مالٍ؛ فلا تكملُ لذَّةُ المالِ إلاَّ بلذَّةِ الثَّناء!
فدونَكَ ما أوصيتُكَ به.
واجعلْ " النِتَّ " هجِّيراكَ ورفيقَك، وترقَّبْ كلَّ ساعةٍ تعقيباتِ المعقِّبين، وتعليقاتِ القارئين، وانظرْ في ردودِهم؛ فإن وجدَتَ نفسَكَ ممدوحاً، مشهوداً لك بِرُقِّيِّ القَلَمِ = فاكتُبْ، واجعلْ بجوارِ ما تكتبُ صورةً لك، مع استحسانِ تهذيبِ اللحيةِ ما استطعتَ؛ لتكونَ أجملَ، وأبعدَ عن وصفكَ بالتديُّنِ المتشدِّدِ.
واحرصْ على الإغرابِ ما استطعتَ، وغُصْ في الأفكارِ، واحفظْ أسماءَ أولادِ "اللوجيا"، أتعرفُهم؟ الآيدلوجيا، والسِّيكولجيا، والأنتولوجيا، وإخوانها وأخواتها، وأتقنْها كإتقانِ جَدَّتِكَ أسماءَ أولادِ "الدُّوْل": الفيفادول، والبندول، والأدُوْل؛ فيَقْبُحُ بكَ أن تكتبَ مقالاً دونَ التعريجِ على أحدِ أولادِ هذه العائلةِ، فتضعف عند قُرَّائكَ الثِّقةُ الثقافيَّةُ بكتاباتِك.
هذا طريقٌ سَلَكَه غيرُ واحدٍ من زملائنا ممن عرفناه طلبَ العلم، قد حقَّقَ ما يريدُ، وتلذَّذَ بثناء النَّاسِ، ومدائحهم؛ فهو الكاتبُ الأديبُ، والمثقَّفُ اللَّبيبُ؛ فهنئياً له اللذَّةُ والشُّهرَةُ!]
وبَعْدُ:
بهذه الخواطِرِ، أو بوصايا غير الموفَّقينَ جنحَ بعضُ طلبةِ العلمِ إلى هذه السبيلِ الغاويةِ، فأسقطَ نفسَه في الهاويَة، قبل رسوخِ القدم، وهي مِنْ ضُرُوبِ الاستعجال، ونتائج الشَّهوةِ الظَّاهِرَةِ لا الخفيَّةِ.
حقّاً .. ما ألذَّ المدح والثناء!
إنَّ في القَلْبِ ثغرةً لا يسدُّها إلاَّ الثناءُ والمدحُ؛ لكنَّ المحرومَ يتعجَّلُ سدَّ هذه الثغرةِ بطلبِ مدحِ النَّاسِ له، ولو أشركَ باللهِ.
والموفَّقُ مَنْ يدَّخِرُ سدَّها ليومِ الجزاءِ؛ ليسمعها كِفاحاً مِنْ ربِّه، ويطلبُها في الدُّنيا من أبوابِها، وذلكَ بذكرِ اللهِ في نفسِه، فيذكره اللهُ في نفسِه، ويقومُ من الليلِ مصلِّياً؛ فيحظى بمباهاةِ اللهِ له ملائكتَه، ويذكرُ ذنباً فتمطر عينُهُ، فيثني عليه ربُّه ويرضى عنه، وهكذا في تنقُّلٍ بين أصنافِ العباداتِ مستصحباً الإخلاصَ، والصِّدقَ، والصَّبرَ؛ مجاهِداً النَّفْسَ في أن يقعَ في أضدادِها، مُؤثراً لذَّةَ ثناءِ النَّاسِ بما هو أعظمُ لذَّة، وأشرحُ قلباً، وأزكى حياةً، وهو ثناءُ اللهِ، ورضاهُ، ومحبَّتُه. وإذا أردتَ أن ترى مقدارَ الفرقِ بين طمعك فيما عند النَّاس، وطمعك فيما عند اللهِ، فانظرْ حالَكَ حينما تُذَم بما تستحقُّ، كيفَ هو الهمُّ والضَّنكُ الذي يلحقُك؟ وأنتَ تعصي اللهَ، وتسوِّفُ بالتَّوْبَةِ، ولا تدري: آللهُ راضٍ عنكَ أم ساخِطٌ، ولا تسعى لرؤيةِ اللهِ من نفسِكَ خيراً من توبةٍ، ونَدَمٍ، وإصلاحٍ، فكيفَ تدَّعي أنَّكَ تريدُ اللهَ والدَّارَ الآخرَة، ولا يجتمعُ في قلبٍ إخلاصٌ وحُبُّ محمدةِ النَّاسِ إلاَّ غلبَ أحدُهما الآخرَ وأحرقَه، ومَنْ لمْ يَجعِلِ اللهُ له نوراً فماله من نُوْرٍ!
الخميس 19/ 7/1431 هـ.
¥