رجل نفيس .. كُتب بقلم نسخ عتيق،وفيه خرم، وبآخره نقص،وفي أطرافه آثار أرضة ..
ـ[أبو فهر السلفي]ــــــــ[06 - 07 - 10, 06:57 ص]ـ
رجل نفيس .. كُتب بقلم نسخ عتيق،وفيه خرم، وبآخره نقص،وفي أطرافه آثار أرضة ..
بسم الله والحمد لله ..
قال أبو بنان:
((الرجل المهذب هو الذي يألف ويؤلف، والذي يتكلم فيضع الكلمة موضعها، فلا تجرح السمع، ولا تُحرج السامع، والذي لا يفعل إلا ما يليق بمثله أن يفعله، والذي لا يُنكر الناس من سلوكه شيئاً، ولا يحسون له على قلوبهم ثقلاً = هذا الرجل كالنسخة المطبوعة الطبعة الأنيقة من الكتاب .. ورقها ثقيل، وجلدها جميل، ولكن مثلها في السوق مئات أو آلاف.
وإن من الرجال ما هو كالنسخة المخطوطة، ربما كانت ناقصة،أو مخرومة، أو مس الزيت أطرافها فأفسدها، ولكنها أثمن وأغلى؛ لأنها واحدة لا ثانية لها)).
قلتُ:
وهذا المعنى الذي أصابه أجل أدباء المعاني المعاصرين،هو حقاً معنى جليل حسن كجلال وحسن بيان صاحبه.
وليس يغفلُ عن هذا المعنى واحد من الناس إلا فاته الشيء الكثير من ثمار معرفة الناس وحسنات مخالطتهم، ولم يكن أبداً ممن يُحسنُ أن يَروزَ الرجال فيبلو أخبارهم، ويقطف من ثمارهم،ويميز بين خصالهم،ويعرف أقدارهم،ويمتحن مذاهبهم، ويتدبر أحوالهم، بل لا يكون الجاهل بهذا المعنى إلا عامي المعرفة فقير التجربة يزهده في الشهد ما يرى من إبر النحل.
وبيان المعنى الذي قصده ذلك الأديب = أن من الرجال – والنساء شقائق الرجال- من هو كالصفحة المستوية خُلقاً وخَلقاً تراه دائماً كأنما هو ليلة عرسه، هادئ الطبع .. لا يسوؤك ولا ينوؤك .. حركاته مضبوطة .. ألفاظه موزونة .. رزين .. رصين .. وقور .. جاد = لكنه بعد كل ذلك فقير المواهب ليس له أثر في دنياه،نهر رتيب، ونسخة مكررة .. لا يُحلي ولا يُمِر.
ويشبهه من هو كالأظافير المقلمة .. جميلة الشكل .. مستوية المظهر .. نقية من الوسخ، لكنها إذا أردتَها على شيء مما يَنتفع فيه الناس بأظفارهم = تخلت عنك وخذلتك أحوج ما تكون إليها.
ومن نفس الخزانة مهذب الفصل المدرسي الذي لا تخلو منه مدرسة في الشرق أوالغرب، صموت، مستواه الدراسي متوسط أو فوق المتوسط بقليل، يحبه المعلمون، ويحبه الطلبة المشاكسون قبل غيرهم،يبقى بالسنين لا تصدر منه مشكلة ولا يشتكي منه أحد،ليست له عداوة مع واحد من الخلق وليس له نصرة لشيء من الحق .. لا يقول الباطل .. لكنه يسكت عن إبطاله .. لا يظلم .. لكنه لا يعدل .. بل يفر من المواجهة ويخنس عند مواقف المفاصلة يُسر برأيه ويعلن بحياده ..
هذه ثلاث درجات أحسنها وأسلمها الأولى .. لكنه كما قال أديبنا: نسخة مكررة ..
أما النادر النفيس حقاً فهو ما كان على صورة لا تشبهها صورة .. نسخة واحدة وحيدة .. نادرة فريدة .. نسيج وحدها وواحدة أيامها .. إن حسناً وإن قبحاً .. المهم أنه ليس لها نظير ..
فمنهم ذلك الجنس من الرجال الذي تراه صاخب الموهبة متوقد النفس تحس لروحه ضجيجاً يصم الآذان .. يحل بالمكان فكأنما حلت به خلية نحل أو سرية جيش .. يهزل ويجد يطرح الكلفة ويُطَّلق الرصانة ربما سقط بلفظة ولكنه يُسرع الأوبة .. نسيج وحده لا يشبهه شيء ..
أو ذلك الجنس الذي يغلبه خلق من الأخلاق على نفسه حتى تراه كأنه أنموذج لذلك الخلق يسير على قدمين وحتى إنك لتستطيع أن تضع اسمه محل ذلك الخلق فكأنما بات هو شعاره ورايته ..
أو ذلك الجنس الذي يحمل بين جنبيه مزيجاً من الطباع والعناصر ليس هو مما تألفه في تراكيب نفوس الخلق وحتى تحس لهذا المزيج طعماً ليس هو مما اعتدته وحتى لترى بعينك نفسه وكأنها إسناد غريب لا يدرى ما وجهه وكيف كان ..
نعم. تلك نسخ خطية نادرة نفيسة ليست مقلمة ولا مهذبة ولا تخلو من عيب هنا وخرم هناك وأرضة لم تنفع معها (كيبج)،ولكنك تنتفع بمعرفتها وتأملها والخبرة بأحوالها أكثر مما تنتفع بتلك النسخ المهذبة المصقولة؛ذلك أن تلك النماذج الغريبة والتراكيب العجيبة والنسخ النادرة النفيسة قد استودع الله فيها غرائباً من الخلق والتصوير حرية بأن يطال النظر فيها وإليها ..
في مواهبها وكيف تصخب وتضج ..
في عيوبها وكيف يجلو العيب في بعضها حتى إنك لتكاد تمسكه بيدك وتقبض أطراف ببنانك وحتى لتشير فتقول: لا يبلغ ذلك العيب أن يكون أبلغ من هذا ..
في محاسن أخلاقها والتي قد ترى في بعض تلك النسخ الخلقَ الحسن في أبلغ صوره التي قد تشهدها في حياتك كلها ..
في أخلاط طبائعها والتي قد تختلط في بعض تلك النسخ اختلاطاً تكثر ألوانه كثرة تعجز عن الإحاطة بها أو عن حتى إطاقة تصور أن تُجمع تلك الألوان في رجل ..
وإن عصمة أمر الإفادة من التجارِب، والخبرة بالمذاهب هي في البصر بهذا الصنف من الرجال المتفردين في صورهم وقلوبهم الذين لم يؤلف نظيرهم ولم يعهد شبيههم، وليس يفيد من مخالطة الناس من لم يطلب معرفة هذا الصنف إلا كما يفيد الجائع من رائحة الشواء فهل له فيها غناء؟
وإنك لتقرأ عن الخلق القبيح أياماً،ولكنك لا تستطيع أن تبلغ من تقبيحه في نفسك ما يبلغ بك تأمل نفس مشوهة حاضرة بين يديك قد استولى عليها هذا الخلق القبيح حتى صارت منه بمنزلة الآية والعلامة ..
وإنك لتقرأ عن الخلق الحسن أياماً،ولكنك لا تتمثل روعته على ما هي إلا أن تراه مخلوقاً بين جنبي نفس حية تسعى بين يديك ..
وإذا كان في البر والبحر وألوان الزهر وأشكال الدر ما يروع النفس انبهاراً لصنعة المليك الجليل= فإن في الخلق ونفوسهم وقلوبهم واختلاف ألوانهم ما تحملق له الأعين وتنفرج له الأفواه فيطلب خبره ويروى أثره ويقول القائلون: لله في خلقه شؤون.
ألا من أوقفته الأيام على نسخة نفيسة كيف كان وجه نفاستها = فليقبض عليها وليُطل النظر متأملاً فتلك نادرة عتيقة لا يدري متى يجد مثلها،وبتأمل تلك النوادر والبصر بها يُشذب المرء طباع نفسه ويصلح أحوال قلبه ويزداد فقهاً بالناس ولا يكون الرجل فقيهاً بشيء أي شيء حتى يكون فقيهاً بالناس ..
وإياك أن يحول بينك وبين أن تنتفع برجل عظيم الموهبة جليل القدر = ما تراه منه من نقص أو خرم أو آثار أرضة، بل اطلب أبواب الخير والنفع فيه، واملأ كفك من نفاسة روحه وجلال موهبته وحلاوة نفسه،وأعرض وتولى واغتفر ما بقى فلست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب ..
¥