تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[منازل الأشعريين.]

ـ[خليل الفائدة]ــــــــ[12 - 07 - 10, 05:19 ص]ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله وبعد،،

حادثةٌ حكاها لي مرةً أحد الأقارب قبل زهاء خمس عشرة سنة .. كان يتحدث لي بشكل عرضي لم يلقِ هو بالاً وهو يتحدث .. لكن قصته تلك لازالت تتناوب على ذهني بين فينة وأخرى .. قريبي هذا يسكن قرية محدودبة في عالية نجد، ويروي لي أنه في الأيام العليلة من السنة يغلق أجهزة التكييف وينام قريباً من النافذة .. ويعلم عن دخول الثلث الأخير من الليل عبر صوت أحد الكهول في القرية يدخل المسجد مع الهزيع الأخير من الليل، وفي فناء المسجد يفترش طرفاً من السجادة الطويلة ويبدأ يرتل القرآن في صلاته بطريقة كبار السن المعهودة .. وهذه عادته كل ليلة ..

منذ حكى لي قريبي تلك القصة وأنا أتحين ذلك الكهل لأرى صلاته الشفافة .. ياليتك تراه وهو يقبض لحيته بين حين وآخر .. ثم يسترسل في قراءته .. لقد كاد يأخذ بأنحاء قلبي ..

قراءته تلك ليست بتجويد مصقول .. ولا حتى بصوت أنيق .. ولكنها -وعزة جلال الله- فيها صدق ويقين أحس أن حوله هالة نور وهو يقرأ ويرتل ..

صحيح أن القرآن بعامة يحمل طاقة تأثيرية تخلب لب المستمع .. ولكن هناك أمرٌ إضافي صرت ألمسه أخيراً .. وهو أن القرآن إذا خيم سكون الليل يكون عالماً آخر .. ثمة قدر إضافي في جلال القرآن لحظة سكون الليل ..

ذلك الكهل القرآني .. توفي قبل سنيات قلائل رحمه الله رحمة واسعة .. ولكن مالذي بعث قصته من مرقدها في ذهني؟ الحقيقة أن الذي أيقظ هذه القصة القديمة قصة مماثلة مرّت بي وأنا أتصفح صحيح البخاري .. وأنا واثق أنك منذ أن تقرأ هذه القصة في البخاري فلن تخطئ عينك وجه العلاقة ..

فقد ورى البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم – أنه قال (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار) [البخاري4232]

لاحظ كيف لم ير النبي منازلهم بالنهار .. ثم استطاع أن يحدد موقعها لما خيم الليل بسبب مابدأ يتسرب منها من حنين المرتلين .. إنها "منازل الأشعريين" ..

يا ألله .. بالله عليك ألا تلمس في كلمات رسول الله حرارة الإعجاب لذلك الترتيل الذي يتهادى من منازلهم بالليل؟! واضح أن النبي –صل الله عليه وسلم- لم يكن يخبر عن مجرد سماعه مصادفة لتلاوتهم الليلية .. بل تكاد تتحسس كيف كان مأخوذاً بذلك الصوت القرآني لدرجة تعيين موقعه في الليل، ثم الإخبار بذلك نهاراً ..

هكذا يكشف مشاعره صلى الله عليه وسلم: (وأعرف منازل الأشعريين من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار) ..

هل تصدق أنني شعرت بحب جارف لأولئك الأشعريين الذين كانت أصواتهم بالقرآن بالليل تستثير مكامن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بل لقد دفعني ذلك الحب أن أبحث عن شئ من أخبارهم في كتب التراجم والسير .. صحيح أنني وجدت لهم بعض الفضائل، لكنها لم تشفِ نفسي إلى الآن عن خبرهم، وخبر ليلهم الذي كانوا يسهرونه مع كتاب الله .. فاللهم ارض عن الأشعريين ..

النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسمع القرآن بالنهار قطعاً، فلماذا جذبته قراءة الأشعريين وصار يتلفت إلى منازلهم إذن؟ لا أدري .. لكنني أميل إلى أنها أسرار القرآن بالليل .. فآيات القرآن إذا هبطت غيوم المساء صارت تتدفق بروحانية خاصة ..

انبعاث صوت القارئ بالقرآن بين أمواج الليل الساكن قصة تنحني لها النفوس ..

وقد مرت بي شواهد أخرى لاحظت فيها هذا الحنين النبوي لصوت القرآن بالليل .. ففي صحيح الإمام مسلم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال مرة لأبي موسى (لو رأيتنى وأنا أستمع لقراءتك البارحة) [مسلم 1887].

يبدو أن رسول الله –صل الله عليه وسلم- لايملك نفسه حين يسمع قارئاً يقرأ القرآن وسط ظلام الليل .. حتى أنه إذا أصبح أخبر أصحابه بتلك القراءات القرآنية الليلية ..

وقوله "لو رأيتني وأنا أستمع" يدل على أن النبي أعار الأمر اهتمامه .. وأخذ ينصت .. تذكر معي هاهنا أن رسول الله يحفظ القرآن بإحفاظ الله له .. ومع ذلك ينصت لمصدر الصوت بالقرآن مهتماً .. ثم يخبر أصحابه بعد ذلك ..

لماذا؟ إنها أسرار روحانية القرآن حين تستحوذ على سكون الليل البهيم ..

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير