تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ليس البشر فقط .. بل حتى الملائكة خرجت عن استتارها يوماً حين انبعث صوت الصحابي بالقرآن .. ففي صحيح البخاري عن أسيد بن حضير قال: (بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال رسول الله "وتدري ما ذاك؟ " قال: لا قال رسول الله "تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم") [البخاري5018].

كلما سمعت قارئاً يتلوا شيئاً من سورة البقرة .. ومرت بي بعض المواضع المثيرة للعقل البشري .. وفي البقرة مواضع تهز النفوس هزاً أعظمها آية الكرسي التي كلها في أوصاف الجلال الإلهية، وقصة تقلب وجه الرسول في السماء تهفو نفسه لتغيير القبلة، وقصة ابتلاء ابراهيم الخليل بالكلمات وإمامته في الدين، وقصة الملأ من بني اسرائيل الذين طلبوا القتال ثم أخذوا يتساقطون على مراحل، ومواضع عجيبة أخرى .. والمراد أنني كلما سمعت قارئاً يتلوا شيئاً من البقرة تذكرت تنزل الملائكة بأنوارهم حين أخذ أسيد بن الحضير يرتل البقرة وسط جنح الظلام ..

لماذا تنزلت الملائكة كأنها المصابيح تتلألأ وخرجت عن استتارها؟ إنها عجائب كتاب الله حين يهيمن فوق سكون الليل ..

بل تأمل في خبر أعجب من ذلك كله، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحث أصحابه بشتى الطرق -المباشرة وغير المباشرة- على تلاوة القرآن بالليل .. كان رسول الله يبعث رسائل ضمنية أثناء تحدثه مع أصحابه تغرس فيهم مركزية تلاوة القرآن إذا لفّ المساءُ المدينة ..

ومن تلك القصص أنه ذُكِر مرة في مجلس النبي الصحابي الجليل "شريح الحضرمي" فأثنى النبي –صلى الله عليه وسلم- عليه بطريقة ليس من الصعب بتاتاً فهم الرسالة الضمنية فيها .. فقد روى النسائي وغيره بسند صحيح أن (شريحاً الحضرمي ذُكِر عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله "ذاك رجل لا يتوسد القرآن") [النسائي3/ 256]

دعني أعترف لك أولاً أنني حين قرأت هذا الحديث أول مرة لم يستبن لي وجهه؟ مامعنى "لا يتوسد القرآن"؟ وهل هناك أحد أصلاً يجعل القرآن وسادة لاسمح الله؟ وإذا بالمعنى أنه لاينام بالليل ويترك حزبه من القرآن، لكن البلاغة النبوية العظيمة صورت من ينام عن القرآن كأنه اتخذ القرآن وسادة!

والنص له وجهان، إما أن يكون الرسول يمدح من لا يتوسد القرآن، أو يذم من يتوسد القرآن، ورجح ابن الجوزي في غريبه والسندي في حاشيته الوجه الأول، وعلى كلا التقديرين فالحاصل هو تنبيه الرسول بطريقة بلاغية مثيرة على مكانة تلاوة القرآن بالليل ..

إذا كان النوم عن القرآن شبهه الرسول باتخاذه "وسادة"، فيبدو أن وسائدنا تهتكت من كثرة النوم عليها! فاللهم ارحم الحال ولا تجعلنا ممن يتوسد القرآن ..

وفي كتاب الله إشارات إلى ذلك الجمال الأخاذ لقراءة الوحي بالليل .. منها أن الله تعالى أثنى مرة على قوم بذلك .. فقال تعالى في وصفهم (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ) [آل عمران113].

هل تستطيع أن تمنع الشجوى حين تتخيل هؤلاء القوم الذين أحب الله فيهم التغني بآيات الوحي إذا أوى الناس إلى فرشهم؟ الله جل جلاله يثمن منهم هذا الموقف ويخلده في كتابه العظيم ..

أخذت مرة أتأمل مثل هذه الأخبار القرآنية النبوية عن جلال القرآن في الليل .. وأخذت أتساءل: ماسبب ذلك ياترى؟ هل هناك تفسير علمي لذلك؟ لم أصل لنتيجة حاسمة، لكن بدت لي بعض الإشارات في كتاب الله ..

فقد أشار القرآن في غير موضع إلى كون الليل موضع للسكن كما قال تعالى (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) [الأنعام 96]، وقال تعالى (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) [النمل 86] .. ففي أصل التكوين البشري يحتاج الإنسان إلى السكينة بالليل .. وتكون النفس مهيأة بما يعتريها من هذا الهدوء ..

والوحي الإلهي من أعظم أسباب السكينة .. ومن هذا الباب كانت أحد الوجوه في تفسير مافي التابوت في قوله تعالى (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) .. ولذلك فإن المعرض عن القرآن يصاب بالآلام النفسية كما قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه124] .. فالحياة الطيبة الحقيقية لاتكون إلا لأهل الإيمان كما قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل97] ..

والمراد أن من تأمل لهفة النبي –صلى الله عليه وسلم- على القرآن بالليل حين قال (إني لأعرف منازل الأشعريين بالليل من أصواتهم بالقرآن) .. وحين قال لأبي موسى (لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة) .. ومدح النبي لشريح الحضرمي بأنه (رجل لايتوسد القرآن) .. وتنزل الملائكة كأنها المصابيح حين أخذ أسيد بن حضير يرتل سورة البقرة بالليل .. ومدح الله لأولئك القوم بأنهم (أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل) .. الخ من تأمل ذلك كله ..

فهل سيبقى ليله يتصرم في سهرات ترفيهية مع الأصدقاء، أو تصفح الترهات الفكرية ومقاطع اليوتيوب على شبكة الانترنت؟! هاهو العمر يمضي والناس من حولنا لايمضي أسبوع إلا ويقال "أحسن الله عزاءك في فلان" .. فهل ياترى سيفنى العمر هكذا في الفضول والترفيه ونحن لم نتذوق حلاوة كتاب الله آناء الليل؟

إبراهيم السكران

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير