إلى كل صائم: التقرُّب إلى الله تعالى بعبادةِ (التُّرُوكِ) مجالٌ خصبٌ للمتاجرةِ الأخروية.
ـ[أبو زيد الشنقيطي]ــــــــ[28 - 07 - 10, 07:40 م]ـ
الحمدُ للهِ تعالى , وصلَّى اللهُ على المصطفى محمدٍ وآلهِ وصحبهِ ومن تبعَ بإحسانٍ وسلَّم, وبعد:
فإنَّ مسألةَ التُّرُوكِ من المسائلِ الأصوليةِ التي اختَلَفَ العُلماءُ في كونها عبادةً أم غيرَ عِبادةٍ , وذهَبَ كثيرٌ منهُمْ إلى أنَّ التَّركَ عِبادةٌ والثَّوابُ فيها قائمٌ على النَّيَّةِ , بمعنى أنَّ من تركَ المُنكَرَ ونوى بتركِهِ التقرُّبَ إلى الله تعالى وقصدَ العِبادةِ فهُوَ وما نوى.
والمُسلِمونَ وهم يستقبلونَ شهرَ رمضانَ الأزهرَ الأنورَ - حعلنا الله ووالدينا وكل ذي حقٍّ علينا من عُتقائه - إنَّما يتهيَّأون للتعبُّدِ والقربةِ إلى ربِّهم بعبادةٍ تَرْكِيَّةٍ هي الصومُ والإمساكُ عن المفطِّراتِ امتثالاً لأمرِ الله تعالى.
والتُّروكُ في الشريعةِ قسمان:
- قِسمٌ مخصَّصٌ بزمنٍ معينٍ وهذا يحتاجُ إلى نيَّةِ التَّركِ عند امتثالهِ كالصومِ أثناء النهار , وتركِ الحديثِ في الصلاةِ وغير ذلك.
- قسمٌ لا يتقيَّدُ بزمنٍ وهذا يتوقَّفُ فيهِ الثَّوابُ على قصدِ التعبُّدِ والتقرُّب إلى المولى جلَّ وعزَّ , كتركِ الغيبةِ وتركِ النَّومِ عن الصلاةِ , وتركِ الهُجرانِ وقطيعة الأرحامِ , وتركِ الزِّنا والخمرش وسائرِ المُحَرَّماتِ , فهذه الأنواعُ مأمورٌ كلُّ مسلمٍ باجتنابها من غير تقييدها بوقتٍ , لكنَّ قصدَ التقرُّبِ بتركِها يجعلها بمنزلةِ الأعمالِ والطاعاتِ الفعليةِ من صدقةٍ وصلاةٍ وعمرةٍ وجهادٍ وزيارةٍ وغير ذلك من شرائع الإسلام , كما قال الحاج سيدي عبد الله:
(والكفُّ فعلٌ في صحيحِ المذهبِ).
والنَّاسُ في رمضانَ تقتضي سُنَّةُ الله فيهم أن تتفاوتَ عزائمُهم وأعمالهم وطاعاتهم كما تفاوتت عقولهم وأجسامهم وألوانهم , ولن تجدَ لهذه السُّنَّةِ تبديلاً ولا تحويلاً.
وبما أنَّ فعلَ المأموراتِ من واجباتٍ وسُننٍ ومندوباتٍ قسمٌ وتركَ المناهي من محرَّماتٍ ومكروهاتٍ قسمٌ آخرُ , فإنَّ من دنَتْ هِمَّتُهُ وضعُفت نفسُهُ في شهر رمضانَ عن هذا القسمِ الأوَّلِ الأعظمِ ثواباً فلا يفوتنَّهُ القسمُ الآخَرُ.
مِن أجلِ ذلك أردتُّ إيقاظَ عزيمتي الخاملةِ ومن يُشابهُتني من الضعفاءِ بالتذكيرِ باحتسابِ الأجرِ وعقدِ النِّيَّاتِ على قصد العبادة والتقربِ إلى الله تعالى بتركِ المنهيَّاتِ غير المؤقَّتة بزمنٍ , ولو استدعى ذلك تحديد قائمةٍ منها والتدرُّبَ عليها في شهرِ رمضانَ طمعاً في مزيَّةِ مُضاعفةِ الأجور.
ولا يعني ذلك أنَّ المناهي الشرعية العامَّة مفتقرةٌ إلى النيةِ , ولكنَّ الغرضَ هو الإعلامُ بأن المكلف إذا استحضر النية في التروك تبرأ ذمتهُ في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة , وان لم يستحضرِ النية في الترك تبرأ ذمته لكنه لا يثاب في الآخرة , ولذلك قعَّدَ بعضُ الأصوليينَ كالزركشي وغيرهِ لذلك بقولهم "التركُ فعلٌ إذا قُصد".
ومن التُّروكِ التي نُهينا عنها عموماً وتأكَّدَ النَّهيُ عنها في رمضانَ خصوصاً ما صحَّ عنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قوله {لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ} , فهذا الحديث فيهِ توجيهٌ نبويٌّ إلى عبادةٍ تركِيَّةٍ جليلةٍ وهي التنزُّهُ عن الزُّورِ قولاً وعملاً في عمومِ الحياةِ , وعند التلبُّسِ بالصومِ على وجهٍ أخصَّ وآكدَ.
والزورُ: اسمٌ جامعٌ لكل ما يخدشُ صيامَ المرء من الأقوالِ والأفعالِ المحرَّمةِ في شِرعة الإسلامِ.
وهذا الحديثُ يمثلُ قاعدةً كليةً تُمكِّنُ كلاً منَّا أن يضع تحتها ما يعلمُ من نفسهِ الفتنةَ بهِ ويعزمَ على التخلصِ منهُ في رمضانَ تركاً لوجه الله تعالى , ومن أمثلة ذلك:
- النَّظَرُ إلى المسلسلاتِ الرّمضانيةِ - الراميةِ إلى سَلسَلةِ الصائمينَ عن السيرِ إلى الجنَّةِ المُفتَّحة أبوابُها في رمضانَ - لما تحتويهِ من وجوهِ المتبرِّجاتِ والأنغامِ والاختلاطِ المحرَّمِ إجماعاً , وما وراءَ ذلك من أفكارٍ وأهدافٍ ترَسَّخُ في أذهانَ المشاهدينَ لتستحيلَ بعد زمنٍ يسيرٍ قناعاتٍ وثوابتَ وهم لا يشعرون.
- السبابُ والشتائمُ بين المتخاصمينَ , ومقابلُ السوء بالسوء كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ، ولا يَسْخُب فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إنِّي امرؤ صائم}.
- مجالسةُ البطالينَ والفُسَّاقِ وغشيانُ نوادي السوء.
- التهاونُ في شهود جماعة المسلمينَ في الفروض الخمسة.
- غلبةُ لسانِ أحدِنا لهُ عند الخصومةِ بحيثُ يتجاوزُ حدود الله مع الناس.
- خروجُ بعضِ النِّتساء غير تَفِلاتٍ بحيثُ يحملنَ أوزارهنَّ وأوزاراً مع أوزارهنَّ بسبب التساهل في الحجاب.
- الكذبُ على الأولاد وذوي الحقوق والمُراجعينَ والمُشاهدينَ بل على اللهِ ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {إيَّاكُم والكذبَ فإنَّ الكَذبَ يَهْدِيْ إلى الفُجُورِ وإنَّ الفجورَ يهدِي إلى النار ولا يزالُ الرجلُ يكذِب ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتَب عند الله كَذَّاباً}. أسال الله أن يجعلنا جميعاً ممَّن عمَّتهم رحمتُه فكانوا ووالديهم ومشايخهم ومن لهُ عليهم حقٌّ من الفائزين.
¥