[خنفساؤولوجيا]
ـ[حامد الإدريسي]ــــــــ[12 - 08 - 10, 03:30 ص]ـ
من احتِرامنا لحقوق التعبير، وتقديرنا للحيوانات والحشرات، سنَعِيش هذه اللحظة مع خنفساء صغيرة جدًّا، حالفها الحظُّ في حياتها القصيرة ولم يدسها أحدٌ برِجليه، إلى أن وصلت أخيرًا إلى تحقيق حلمها، ووقفت على باب القصر الذي حلمتْ منذ طفولتها بدخوله، وها هي تجد ثقبًا صغيرًا استطاعتْ بطلتُنا أن تلج منه إلى حديقة القصر الغنَّاء.
وبعد أيامٍ من الكد والجهد، والجمع واللم، والقص واللصق - خرجت تحمِل كرات كبيرةً مدورة، وحدَّثت جمعَ الخنافس الذين تجمهروا يستمعون لها بإجلالٍ قائلة: إنَّ هذا القصر الكبير البهي المنظرِ، فيه الكثيرُ من الوساخة، فلا يغرَّنكم لونه الأبيض ولا زهوره الجميلة، وهذه الكرات التي أمامَكم والتي جمعتُها بجهد جهيد، واجتهدت في إخراجها - دليلٌ على ما أقول.
حين صفَّق جمعُ الخنافس بنشوة، أحسَّت الخنفساء بأنها قد حقَّقت ذاتها، وأكَّدت حضورها، وقامَت بدورها، فهي خنفساء، وتلك نحلة، وثمَّة ذِبَّان، كلٌّ يقوم بدوره الذي خُلِق له، ويؤدِّي مهمَّته في مسلسل الحياة المُترابِط، ويَبقَى القصر قصرًا، رغم كلِّ تلك الكرات التي أخرجَتْها خنفساؤنا، ورغم كلِّ تلك الأوساخ التي أضنَتْ نفسها بجمعها وتتبُّعها بأنفها الذي لم يُخلَق لشمِّ العطر، ولا لتتبُّع الرحيق، وإنما خُلِق لهذه المهمة التي هي من حِكَم الله - عزَّ وجلَّ - البالغة، وكما قيل:
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ
طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ
إنَّ الإنسان هو فهرست الكون، كما يعبِّر بديع الزمان النورسي، وفيه من كلِّ ما خلَق الله - عزَّ وجلَّ - فالصِّفات التي تفرَّقت في الحيوانات اجتمعَتْ في هذا المخلوق العجيب، الذي هو ثمرة شجرة الكون، وهو تعبيرٌ آخَر بديعٌ من بديع الزمان، وقد أثبَت العُلَماء قديمًا تشابُه صفات الناس بصفات الحيوانات؛ بل قسَّموا البشر على هذا الأساس، وقد اطَّلعت على هذا العِلْمِ عند الصينيين، في كتابٍ عن علم "الفينغ شوا"، وهو علمٌ عجيب عن الطاقة ومساراتها، وهو أحدث ما يُطبَّق الآن في علم الهندسة والبناء، حيث يتمُّ تصميم المنازل على حسب ما يَتوافَق مع المكان والبيئة والهواء ومجرى الطاقة.
إذًا من الناس أُسُود لها زئير، وخيل أُنُف، وضِباع لئيمة، وذِئاب ختَّالة، وثعالب غدَّارة، ومنهم مَن يكمل نفسه بالتقوى والإيمان، ومنهم مَن يترك تلك الطبائع تتغلَّب على تصرُّفاته وأخلاقه، فيَصِيرون في شرِّ حال، بعيدًا عن أخلاق الفضل والخير والسموِّ؛ ? لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ? [التين: 4 - 6].
ولقد بدأت حكاية تعلُّم الإنسان من علوم الطبيعة منذ العراك الأول الذي حصل بين ابنَيْ آدم، حين تتلمذ قابيل على يد غرابٍ يبحث في الأرض ليُرِيَه كيف يُوارِي سَوْءَة أخيه، وممَّا تعلَّمه كذلك أسلوبٌ من أساليب الطبيعة في إكمال الدورة البيولوجية، الأسلوب الذي تتَّبعه الخنفساء وكثيرٌ من الحشرات في جمع الرذائل وتتبُّعها وتكويرها وبلورتها وإبرازها، وهو ما أعبِّر عنه مجازًا بـ (الخنفساؤولوجيا)، أو علم تتبُّع العورات.
يبحث هذا العلم ومختصُّوه في كلِّ فضيلةٍ، ويتتبَّعون عورةَ كلِّ عالم وفاضل؛ ليحصوا عليه ما وقَع فيه من أخطاء، فيجمعوها بقوَّتهم البالغة في هذا التتبُّع وهذا الجمع، وأسلوبهم المُتناسِق كتناسُق كرة الخنفساء، ونشاطهم المُنقَطِع النظير، فلا يحسُّون بكلل ولا ملل، وكثيرٌ من الناس يظنُّ أنهم مسترزقون بذلك، وقد يكون بعضهم نالَ شيئًا من عرض الدنيا، لكن الدافع الذي يؤزُّهم أزًّا، ليس هو المال بالدرجة الأولى؛ بل كثيرٌ منهم من أفقر خلق الله وأقلهم جاهًا ومكانة ومالاً، بل دافعهم الأوَّل هو ما دفع الخنفساء إلى أن تحشر نفسَها في دهاليز القصر ومَجارِيه، معرضة نفسها لخطر أن تُداس بالأرجل، وذلك دافع الحكمة الربانيَّة في تسلسل الخلق مراتب وطبقات؛ ? وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ? [الزخرف: 32]، وهم مُسَخَّرون لخدمة ذلك الإنسان الذي يسعى
¥