[(رمضان) ... وألم الفراق!]
ـ[أبو معاوية البيروتي]ــــــــ[29 - 08 - 10, 08:05 م]ـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد،
أيها الإخوة والأخوات،
ها أنتم ترون أنفس المؤمنين في نهاية شهر رمضان يعلوها الحزن،
يعلوها البكاء،
تعلوها الحسرة التي تكاد تقطع قلوبهم،
وتُمَزّق أفئدتهم،
إنها القلوب المتعلّقة بالله تبارك وتعالى،
وإذا تعلّق القلب بالله عزّ وجلّ وطاعته أحبّه حبًّا عظيماً يفوق كل المحبوبات،
وإذا انشغل القلب بالله تعالى ومناجاته والتضرّع إليه لم يشغله شيء أبداً عن ذلك،
قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأبْصَارُ} (النور، 37).
نعم!
قلب المؤمن المتعلّق بالله سبحانه،
أقبل فقُبِلَ،
وعرف لماذا خُلِقَ فعَمَل،
إذا رجع الناس إلى لذّاتهم عاد هو إلى عبادته،
وإذا سكن الخلق إلى أوطانه سكن إلى حُرقات أشجانه،
وإذا أقبل التجار على تفقّد أموالهم أقبل على تفقّد أحواله،
وإذا التذّ الغافلون بالمنام على جنوبهم تلذّذ في القيام بكلام محبوبه.
كيف لا يحزن ولا يتألّم قلب المؤمن إذا فارقه شهر القيام،
شهر الخشوع،
الشهر الذي ترقّ فيه القلوب أكثر،
وتلين النفوس أكبر وأعظم،
آهٍ على فراق المحبوب،
آهٍ إذا مضى شهر الخيرات ولم يُكثِر فيه من الطاعات،
آهٍ على ذهاب أيام العمر العظيمة أيام الطاعات والقربات، وليالي المناجاة.
قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحنًُّ،
ومن ألم فراقه تئِنُّ،
كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع
وهو لا يدري هل بقي في عمره إليه رجوع؟
سلامٌ من الرحمن كل أوان ........... على خير شهر قد مضى وزمانِ
سلامٌ على شهر الصيام فإنه .......... أمانٌ من الرحمن أيَّ أمانِ
لقد فنيت أيامك الغُر بغتةً ........... فما الحزن من قلبي عليك بفانِ
(قال أبو معاوية البيروتي: نقله الدكتور السحيباني في كتيّبه من " بغية الإنسان من وظائف رمضان " لابن رجب)
أين تأثّر المجتهدين في نهاره؟
أين قلق المتهجّدين في أسحاره؟
إذا كان هذا حال مَن ربح فيه،
فكيف حال مَن خسر في أيامه ولياليه؟
ماذا ينفع المفرِّط فيه بكاؤه وقد عظمت فيه مصيبته وجلّ عزاؤه؟
كم نُصِحَ المسكين فما قبِلَ النّصح؟!
كم دُعِيَ إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح؟!
كم شاهد الواصلين فيه وهو متباعد؟!
كم مَرَّت به زمر السائرين وهو قاعد؟!
حتى إذا ضاق به الوقت وحاق به المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم،
وطلب الاستدراك في وقت العدم،
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً (29)) (الفرقان، 27 - 29).
(وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى (23) يقول: يا ليتني قدمت لحياتي) (الفجر، 23 - 24)
نعم،
إنه يتذكّر،
يتذكّر الحق ويتّعظ بما يرى،
ولكن فات الأوان،
ومضى عهد الذكرى،
فما عادت هناك تجدي هناك في دار الجزاء أحداً،
وما هي إلا الحسرة والندم على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا.
هناك يا عبد الله تتجلّى لهذا المفرِّط الحقيقة،
فإذا هو يقول: يا ليتني قدّمت شيئاً لحياتي هنا،
فهي الحياة الحقيقية التي تستحق اسم الحياة، وهي الحياة التي تستأهل الاستعداد والتقدمة والادِّخار لها.
يا ليتني
إنها أمنية فيها الحسرة الظاهرة،
وهي أقسى ما يملكه الإنسان في الآخرة.
لماذا ذلك الألم الذي يحصل في قلوب المؤمنين عند فراق رمضان؟
لماذا يبكي المؤمنون وهم يُوَدِّعون شهر رمضان؟
لماذا يستمر الحزن والألم بعد رمضان؟
والجواب:
تتألم قلوبهم،
وتبكي أعينهم،
ويستمر حزنهم ليالي وأياماً بعد رمضان؛ لأنهم فقدوا شهر الخشوع،
شهر تهذيب النفوس والأخلاق،
شهر التهجد والقيام،
شهر الجود والكرم والبذل،
يستمر حزنهم وتبكي مدامعهم؛ لأنهم فقدوا الأيام التي يكونوا فيها أكثر اتصالاً بالله تعالى،
وأعظم خشوعاً وخضوعاً وتهجّداً،
يبكون ويتألّمون؛ لأنهم فقدوا شهر الصوم الذي يورث التقوى،
ويكسر الشهوة،
ويقمع الهوى، ويردع عن الأشر والبطر والفواحش،
ويورث التقوى حيث يُهَوِّن لذات الدنيا ورياستها،
يتألم المؤمنون عند فراق رمضان؛ لأنهم فقدوا الشهر الذي يربي في المسلم الخوف من الله تعالى ومراقبته والتطلّع لثوابه،
فقدوا الشهر الذي يربي المسلم على صدق الإيمان وقوة المحبة لله رب العالمين،
يحزن المسلم على فراق رمضان؛ لأن في رمضان يخلو البطن من الطعام والشراب،
فيتنوّر القلب ويرق،
وتزول قسوته،
ويخليه الصيام للذكر والتفكّر في آيات الله تعالى وملكوته،
وتبكي عيون الخاشعين على فراق رمضان،
لأنهم في رمضان يكثر شوقهم إلى الجنان،
ويزداد تطلّعهم إلى الآخرة التي يقول فيها سبحانه: (والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) (الأعراف،169)
يتألم قلب المؤمن على فراق رمضان،
لأنه في رمضان كان يتذكر أن مهر الحور العين هو طول التهجد،
وهو حاصل في رمضان أكثر من غيره،
يا أيها الإخوة والأخوات،
ماذا استفاد أحدنا وهو يُوَدِّع شهر الصيام؟
بِمَ صقل قلبه؟
بِمَ وعظ نفسه؟
ما الصفحة التي انفتحت أمام ناظريه وهو يُوَدِّع رمضان؟
أوليست حياتنا كلها مثل هذا الشهر الذي مضى وانتهى؟
والجزاء إنما هو بحسب ما قدّم فيه من خير أو شر،
بحسب ما أودع فيه من الأعمال الصالحة أو السيئة،
فإذا كانت الدنيا كلها مثل هذا الشهر الذي مضى وانتهى،
أوليس ذلك دافعاً للمرء المسلم أن يستغل أيامه كلها في الطاعات؟
قيام الليل،
صيام النفل،
إطعام المساكين،
محبة المؤمنين،
معاداة الكافرين .....
قال أبو معاوية مازن البحصلي البيروتي عفا الله عنه:
أُكمِل نقل المقال لاحقاً إن شاء الله الكريم ...
¥