هذا الحب الذي جعل قيس بن الملوح (مجنون ليلى) يسيح في البريّة مع الوحوش ويقول أرق الشعر وأعذبه وأبدعه فكان من قوله:
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا ... لي اللّيل هزّتني إليكِ المضاجعُ
أقضّى نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني بالليل والهمّ جامعُ
لقد ثبتت في القلب منكِ مودةٌ ... كما ثبتت في الراحتين الأصابعُ!!!
هذا الحب الذي جعل جميل بن مَعْمَر (جميل بثينة) يتمنى محبوبته في الدنيا وفي البرزخ حيث يقول:
ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن تمت ... يوافق في موتي ضريحي ضريحُها
فما أنا في طول الحياة براغبٍ ... إذا قيل قد سُويّ عليها صفيحها
أظلُّ نهاري مُستهاما ويلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحُها
!!!
هذا الحب الذي جعل ابن زيدون يهيم بولادة بنت المستكفي ويتمنى لقائها ولو كان في عرصات القيامة حيث يقول:
بنتم وبنّا، فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم، ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضى علينا الأسى، لولا تأسينا
وقد نكون وما يُخشى تفرّقنا ... فالآن نحن وما يُرجى تلاقينا
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاء ... في موقف الحشر نلقاكم ويكفينا!!!
هذا الحب الذي جعل كثير الخزاعي (كثير عزّة) يحسب أن الذنب يغفره صلاة في موضع صلتْ فيه محبوبته حيث يقول:
خليليَّ هذا ربعُ عزّة فاعقلا ... قَلُوصَيْكما ثم انزلا حيث حَلّتِ
ومُسّا تراباً كان قد مسَّ جلدها ... وظلاّ وبيتا حيث باتتْ وظلَّتِ
ولا تيأسا أن يغفر الله منكما ... ذنوباً إذا صلّيتُما حيث صلَّتِ
وما كنتُ أدري قبل عزّة ما البكا ... ولا مُوجعاتِ القلب حتى تولّتِ!!!
هذا الحب الذي جعل يزيد بن معاوية , الملك بن الملك يرى أنه مقتول وقاتله محبوبته حيث يقول:
خذوا بدمي ذات الوشاح فإنني. . . رأيت بعيني في أناملها دمي
ولا تقتلوها إن ظفرتم بقتلها. . . ولكن خبّروها بعد موتي بمأتمي
!!!
هذا الحب الذي جَعَل له في كل عصر ٍ من الأعصار صرعى , وله في كل مصر ٍ من الأمصار هلكى!!!
فهذا عاشق , وهذا متيّم , وهذا مُحب , وذاك مفؤد , وذاك سليب , وذاك مصاب , ولو سئل أحدهم عن الحب لقال كما قال الأسدي:
هل الحبُّ إلا زفرةٌ بعد عبرةٍ ... وحرٌّ على الأحشاء ليس له برْدُ
وفيضُ دموع من جفوني كلما ... بدا علمٌ من أرضكم لم يكن يبدو
!!!
ولقال كما قال الآخر واصفا ما يجده من الحب:
يا مُوقد النار يُذكِيها ويخمدها ... قرّ الشتاء بأرياح وأمطارِ
قم فاصطل النار من قلبي مُضرّمة ... فالَّوقُ يُضرِمُهَا يا مُوقد النَّارِ!!!
وهؤلاء مع ذلك كله في عذابٍ إن بَعُدْ المحبوب وإن قَرُبْ , فإن بعد عذابه في البعاد , وإن قرب بكى للفراق , فهو في عذاب مستمر , كما قال الشريف الرضي:
أشكو إلى الله قلبا لا قرار له ... قامتْ قيامتُهُ، والنّاسُ أحياءُ
إن نال منكم وصالاً زاده سقماً ... كأنّ كُل دواءٍ عنده داءُ
كأنّ قلبي يوم البيْنِ طار به ... من الرفاع نجيب الساق عداءُ!!!
وكما قال ابن دريد:
وما في الأرض أشقى من محبٍ ... وإن وجد الهوى حلو المذاقِ
تراه باكياً في كل حين ... مخافة فُرقة أو لاشتياقِ
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم ... ويبكي إن دنوا حَذر الفراقِ
فهذا الحب هو الداء الدويّ , والسم الخفيّ , الذي إن أصاب إنسان ٍ أهلكه , وإن وقع في القلب ملكه!!
لا قرار لصاحبه , فهو في هم ٍ وغم , وهذا غاية ما يريده الشيطان من بني آدم بأن يصرفه عن طاعة الله عز وجل إلى تتبع مراضي محبوبه والله المستعان.
وهذا النوع من الحب فيه دخلٌ وزغل , وإن قال صاحبه ما قال ما لم يوافق شرع الله تعالى , فإن الله عندما رَكّب في خلْقه هذه السجيّة والطبيعة جعل لها مجرى تجري فيه مُوافق لشِرْعته , فإن خالفتْ المجرى شَقِي صاحبها , وإن وافقته تمّ لصاحبها العيشة الهنيّة والسعادة الأبديّة.
ألا ترى بأن العاشق الذي يخالف ما جُبل عليه من الحب بحبٍ لا يوافق الشرع , سرعان ما ينتهي حُبّه حينما يأخذ ما يريده من محبوبه!!!
ألا ترى بأن حبه ينقلب بغضا ً وكرها وربما ابتزازا ً لمن يزعم حبه!!!
ألا ترى بأن قلب من يزعم هذا الحب فيه كثير غيره حتى إذا أنهى مراده منه تركه , كما قال أبو نواس:
أتيتُ فؤادَها أشكو إليه ... فلم أخلصْ إليه من الزِّحامِ
¥