وهَكَذَا مَضَتْ بِهِم السُّنُوْنُ الخَدَّاعَةُ، وهُم بَعْدُ لم يَحْفَظُوا كُتُبَ السُّنَّةِ، وفَوْقَ ذَلِكَ أنَّهُم لم يَقْرَؤُوْهَا أيْضًا، فعِنْدَهَا اسْتَطَاعَ الشَّيْطَانُ أنْ يُغْرِيَهُم بِمِثْلِ هَذِهِ العُهُوْدِ المَكْذُوْبَةِ والأمَاني المَظْنُوْنَةِ؛ حَتَّى أوْقَعَهُم في أوْثَقِ حَبَائِلِ مَكْرِهِ: وهُوَ أنَّهُ لمَّا صَرَفَهُم عَنْ حِفْظِ كُتُبِ السُّنَّةِ؛ قَامَ بَعْدَهَا ليَصْرِفَهُم عَنْ قِرَاءَتِهَا، بِحُجَّةِ أنَّهُم مَا زَالُوا يَنْتَظِرُوْنَ الوَقْتَ المُنَاسِبَ كَي يَحْفَظُوْنَهَا، فَحُرِمُوا حِيْنَهَا الحِفْظَ والقِرَاءَةَ مَعًا، وهَكَذَا بَقَوْا على عَهْدِ الأمَاني؛ فَلَا حِفْظًا حَصَّلُوْهُ، ولَا قِرَاءَةً أتَمُّوْهَا!
فَكَمْ وكَمْ طَالبٍ للعِلْمِ تَمرُّ عَلَيْهِ السِّنِيْنَ تِلْوَ السِّنِيْنَ، وهُوَ بَعْدُ لم تَقَعْ عَيْنَاهُ على قِرَاءَةِ كُتُبِ السُّنَّةِ نَظَرًا، هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ قِرَاءَةَ كُتُبِ السُّنَّةِ نَظَرًا لَا يُعْذَرُ فِيْهَا طَالِبُ عِلْمٍ بِحَالٍ مِنَ الأحْوَالِ!
وأشَدُّ مِنْ هَذَا حَسْرَةً، أنَّكَ تَجِدُ كَثِيْرًا مِنَ المُنْتَسِبِيْنَ إلى قَبِيْلِ العِلْمِ مِنْ أهْلِ زَمَانِنَا: لم تُصَافِحْ قِرَاءَةُ «الصَّحِيْحَيْنِ» أسْمَاعَهُم، فإلى اللهِ المُشْتَكَى، وهُوَ نِعْمَ المَوْلى، ونِعْمَ النَّصِيْرُ.
* * *
ومِنْ طَرِيْفِ البِدَعِ الإضَافِيَّةِ؛ أنَّ نَفَرًا مِنَ الصُّوْفِيَّةِ ممَّنْ أذْكَوْا جَذْوَةَ التَّنَافُسِ بَيْنَهُم في تَحْصِيْلِ خَتَمَاتِ «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» في شَهْرِ رَمَضَانَ؛ حَتَّى إذَا مَا ظَنَنْتَ بِهِم غَيْرَ مَا ظَنُّوْهُ؛ قَامُوا يَكْشِفُوْنَ عَنْ بَوَاطِنِ هَذِهِ الخَتَماتِ في هَذَا الشَّهْرِ: وهُوَ أنَّهُم مَا أرَادُوا مِنْهَا كَبِيْرَ عِلْمٍ ولا عَمَلٍ؛ بَلْ أرَادُوا ذِكْرَ الصَّلاةِ على النَّبِيِّ ? كُلَّما مَرُّوْا على ذِكْرِهِ عِنْدَ كُلِّ حَدِيْثٍ!
قُلْتُ: فَإنْ كَانَ لخَتْمِ «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» حَقٌّ؛ فَأهْلُ السُّنَّةِ أوْلى بِهِ مِنْهُم، ولكِنْ دُوْنَ تَقْيِيْدٍ بزَمَانٍ أو تَحْدِيْدٍ لمَكَانٍ.
* * *
وهَذَا أوَانُ الشُّرُوْعِ إلى ذِكْرِ التَّوْجِيْهَاتِ العَشَرَةِ المُعِيْنَةِ على حِفْظِ كُتُبِ السُّنَّةِ، كَمَا أدَّاهُ اجْتِهَادِي الكَلِيْلُ، وبَلَغَهُ فِكْرِي العَلِيْلُ، ومَا على المُحْسِنِيْنَ مِنْ سَبِيْلٍ، فمِنْ هَذِهِ التَّوْجِيْهَاتِ والوَصَايَا مَا يَلي باخْتِصَارٍ:
أوَّلًا: يَنْبَغِي على طَالِبِ العِلمِ مِمَّنْ تَغَيَّا حِفْظَ «الصَّحِيْحَيْنِ» أنْ يَسْتَحْضِرَ شَرْطَ الإخْلاصِ، وإلَّا فَلَا يَتَعَنَّى؛ لِأنَّ الطَّرِيْقَ مَسْدُودٌ في الآخِرَةِ!
ثُمَّ عَلَيْهِ بَعْدَئِذٍ أنْ يَحْمِلَ نَفْسَهُ على العَمَلِ بِمَا يَحْفَظُهُ مِنَ العِلْمِ، وإلَّا فَلا يَتَكَلَّفْ؛ لِأنَّ الطَّرِيْقَ مَسْدُودٌ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ!
ومَا كَانَ حِفْظُ القَوْمِ إلَّا بِالعَمَلِ! لِذَا كَانَ مِنْ مَسَالِكِ عِلْمِ السَّلَفِ أنَّهُمْ يَعْمَلُوْنَ بِمَا يَعْلَمُوْنَ، لِذَا كَانُوْا يَسْتَعِيْنُوْنَ على الحِفْظِ بِالعَمَلِ.
ثُمَّ عَلَيْهِ أنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ على هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، وإرَادَةٍ جَازِمَةٍ، وفَهْمٍ صَافٍ، ووَقْتٍ مُنَاسِبٍ، وإلَّا فَإنَّ الَطَّرِيْقَ سَيَطُوْلُ، ورُبَّمَا انْقَطَعَ بِهِ وهُوَ بَعْدُ!
ثُمَّ عَلَيْهِ أنْ يَسْتَعِيْنَ باللهِ تَعَالى في حِفْظِهِ أوَّلًا، ثُمَّ لَهُ بَعْدَئِذٍ أنْ يَسْتَعِيْنَ بِمَنْ شَاءَ مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ الصَّادِقِيْنَ على حِفْظِ «الصَّحِيْحَيْنِ»؛ تَسْلِيَةً لِلنَّفْسِ على المُوَاصَلَةِ، وتَنْفِيْسًا لِلقَلبِ على المُرَاغَمَةِ.
وإلَّا فَمَعَ نَفْسِهِ مُنْفَرِدًا أسْلَمَ لَهُ وأفْضَلَ؛ لأنَّهُ أجْمَعَ لنَفْسِهِ وقَلْبِهِ، وأنْفَعَ لضَبْطِهِ وحِفْظِهِ؛ لِصَفَاءِ الذِّهْنِ، واجْتِمَاعِ النَّفْسِ، وشَاهِدُ الحَالِ قَائِمٌ.
¥