وأيَّا كَانَ الأمْرُ مِنْهُمَا؛ فَعَلَيْهِ أنْ يَقْطَعَ نَفْسَهُ عَنِ الصَّوَارِفِ والشَّوَاغِلِ، لِأنَّ الصَّوَارِفَ تَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيْقَ، والشَّوَاغِلَ تُطِيْلُهُ بالمِلالِ والسَّآمَةِ، وكِلَاهُمَا عَائِقٌ قَلَّ مَنْ نَجَى مِنْهُمَا، والحَافِظُ هُوَ اللهُ تَعَالى!
ثُمَّ اعْلَمْ؛ أنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوْجِيْهَاتٍ هُنَا؛ لَمْ تَكُنْ خَاصَّةً بحَافِظِ السُّنَّةِ وقَاصِدِهَا، بَل هِيَ لَهُ، ولِكُلِّ مَنْ سَلَكَ طَرِيْقًا إلى طَلَبِ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ بِعَامَّةٍ!
* * *
ثُمَّ ثَانِيًا: عَلَيْهِ أنْ يَبْدَأ أوَّلًا بِحِفْظِ «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ»، ثُمَّ يُعَرِّجَ ثَانِيًا على حِفْظِ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ»، وفي تَقْدِيْمِ البُخَارِيِّ على مُسْلِمٍ بَحْثٌ جَاءَ مُفَصَّلًا في كُتُب عُلُومِ الحَدِيْثِ، ولاسِيَّما فِيما ذَكَرَهُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ الله في كِتَابِهِ: «هَدْي السَّاري»، فَانْظُرْهُ مَشْكُوْرًا.
ومَنْ أرَادَ تَقْدِيْمَ «صَحِيْحَ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ»؛ فَلَهُ مَا يُرِيْدُ، بالشَّرْطِ المُعْتَبرِ عِنْدَنا، كَمَا جَاءَ هُنَا في تَقْدِيْمِنَا للبُخَارِيِّ على مُسْلِمٍ.
* * *
ثُمَّ ثَالِثًا: عَلَيْهِ أنْ يَحْفَظَ «صَحِيْحَ البُخَارِيِّ» كَامِلًا، أيْ: حِفْظَ أحَادِيْثِهِ وآثَارِهِ ومُعَلَّقَاتِهِ، وذَلِكَ مِنْ خِلَالِ نُسْخَةٍ صَحِيْحَةٍ مُعْتَمَدَةِ، ويَحْضُرُني الآنَ مِنْهَا: طَبْعَةُ مُؤَسَّسَةِ الرِّسَالَةِ ناشَرُونَ، وطَبْعَةُ دَارِ طَوْقِ النَّجَاةِ، ولِكُلٍّ مِنْهُما مَيْزَةٌ وفَضِيْلَةٌ.
تَنْبِيْهٌ: هُنَاكَ تَحْقِيْقٌ عِلمِيٌّ «لصَحِيْحِ البُخَارِيِّ» قَامَتْ بِهِ مُؤسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، إلَّا أنَّهُ لم يَخْرُجْ حَتَّى سَاعَتي هَذِهِ، ومَا أظُنُّهُ إلَّا أفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، والله تَعَالى أعْلَمُ.
* * *
ثُمَّ رَابِعًا: عَلَيْهِ أنْ يُحَدِّدَ لَهُ في الحِفْظِ كُلَّ يَوْمٍ عَدَدًا مِنَ الأحَادِيْثِ، لَا تَقِلُّ عَنْ خَمْسِيْنَ حَدِيْثًا تَقْرِيْبًا، وإلَّا يَكُنْ، فَهُوَ بِالخِيَارِ.
ولَهُ أيْضًا أنْ يَخْتَارَ مِنَ الأوْقَاتِ: أسْكَنَهَا للقَلْبِ، وأصْفَاهَا للذِّهْنِ، ولا أظُنُّهُ غَالِبًا إلَّا بَعْدَ صَلاةِ الفَجْرِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ.
وأيًّا كَانَ اخْتِيَارُ الوَقْتِ؛ فالعِبْرَةُ بِمَا هُوَ أنْفَعُ للحَافِظِ، وأجْمَعُ لحِفْظِهِ.
* * *
ثُمَّ خَامِسًا: عَلَيْهِ أنْ يُرَاعِيَ في حِفْظِهِ مَا يَلي:
أنْ يَحْفَظَ الأحَادِيْثَ القَصِيْرَةَ لَفَظًا ومَعْنًى، وأمَّا حِفْظُ الأحَادِيْثِ الطَّوِيْلَةِ فَلْيَكُنْ بِالمَعْنَى والتَّدَبُّرِ.
وإنْ كَانَ مِمَّنْ أُوْتِيَ ذِهْنًا صَافِيًا وحَافِظَةً وَقَّادَةً؛ فَلَهُ حِفْظُهَا كَالقَصِيْرَةِ لَفَظًا ومَعْنًى، ومِثْلُ هَذِهِ الحَافِظَةِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، بَلْ لهَا حُكْمُ النَّادِرِ.
ثُمَّ اعْلَمْ (هَدَانِي اللهُ وإيَّاكَ): أنَّ أكْثَرَ رُوَاةِ الحَدِيثِ وأهْلِهِ (بَعْدَ عَصْرِ التَّدْوِيْنِ) لَمْ يَكُنْ حِفْظُهُم لِلأحَادِيْثِ الطِّوَالِ قَائِمًا على حِفْظِ الحَدِيْثِ بَفِصِّهِ ونَصِّهِ، بَل كَانَ حِفْظُهُم مُنْصَبًّا على المَعْنَى، ومَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَ بَيْنَهُمْ نَفَرٌ: هُم حُفَّاظٌ مُتْقِنُونَ!
لِأجْلِ هَذَا؛ فَإنِّي أدْعُوْا إخْوَاني طُلَّابَ العِلْمِ ألَّا يَقِفُوْا كَثِيْرًا مَعَ حِفْظِ ألْفَاظِ الأحَادِيْثِ الطِّوَالِ، بَلْ يَكْفِي مِنْهَا المَعْنَى، الَّذِي لا يَسْتَقِيْمُ لَهُم إلَّا بَعْدَ التَّدَبُّرِ والتَّأمُّلِ في ألْفَاظِ الحَدِيْثِ.
ومَا ذَكَرْتُهُ هُنَا؛ لم يَكُنْ إلَّا بَعْدَ أنْ بَاتَ مَعْلُوْمًا لعَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ أنَّ الأحَادِيْثَ النَّبَوِيَّةَ قَدْ دُوِّنَتْ في الدَّوَاوِيْنِ؛ لِذَا فَهِي مَحْفُوْظَةٌ مَصُوْنَةٌ مِنَ التَّصْحِيْفِ والتَّحْرِيْفِ.
كَمَا أنَبِّهُ هُنَا؛ أنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ رِوَايَةِ الحَدِيْثِ قَبْلَ التَّدْوِيْنِ وبَعْدَ تَدْوِيْنِهِ، فَافْهَمْ هَذَا فَإنَّهُ عَزِيْزٌ.
¥