هَذَا إذَا عَلِمْنَا جَمِيْعًا؛ أنَّ أكْثَرَ أهْلِ العِلْمِ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ والفُقَهَاءِ وغَيْرِهِمْ قَدْ ذَهَبُوا إلى جَوَازِ رِوَايَةِ الحَدِيْثِ بِالمَعْنَى، بِشَرْطِ ألَّا يُحِيْلَ المَعْنَى، أو يُفْسِدَ المَبْنَى، في غَيْرِهَا مِنَ الشُّرُوْطِ المُعْتَبَرَةِ عِنْدَ أهْلِ الأثَرِ.
* * *
ثُمَّ سَادِسًا: عَلَيْهِ أنْ يُرَاعِيَ في حِفْظِهِ مَا يَلي:
أنْ يَحْفَظَ مِنَ «الصَّحِيْحَيْنِ» المُتُونَ دُوْنَ الأسَانِيْدِ، وهَذِهِ الحَيْثِيَّةُ لِمَنْ رَامَ الِاشْتِغَالَ بِالعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الأخْرَى: مِنْ تَفْسِيْرٍ وعَقِيْدَةٍ وفِقْهٍ ولُغَةٍ إلى آخِرِهَا.
بِمَعْنَى: أنَّ مَنْ أرَادَ مِنْ نَفْسِهِ أنْ يَكُوْنَ طَالِبًا مُتَفَنِّنًا، ونَاظِرًا مَوْسُوْعِيًّا في أغْلَبِ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الأخْرَى، فَلا يَتَعَنَّى حِفْظَ أسَانِيْدِ كُتُبِ السُّنَّةِ!
أمَّا مَنْ أرَادَ النُّبُوْغَ والتَّخَصُّصَ في عِلْمِ الحَدِيْثِ، وأنَّ يَكُوْنَ مِنْ زُمْرَةِ المُحَدِّثِيْنَ، أيْ: يَكُوْنَ حَافِظًا مُحَدِّثًا، عَالمًا بعِلْمِ الرِّوَايَةِ والدِّرَايَةِ، مُشْتَغِلًا بكُتُبِ السُّنَّةِ تَصْحِيْحًا وتَضْعِيْفًا، ووَاقِفًا على رِجَالاتِهَا تجْرِيْحًا وتَعْدِيلًا ... فَلَهُ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ يَحْمِلَ نَفْسَهُ على حِفْظِ أحَادِيْثِ الكُتُبِ السِّتَّةِ مَتْنًا وسَنَدًا، وإلَّا بَيْنَهُ وبَيْنَ حُفَّاظِ الحَدِيْثِ وأهْلِهِ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ، وقَدْ بَسَطْنَا الحَدِيْثَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الحَالِ في كِتَابِنَا «أوْهَامِ الرَّائِدِ»، فَفِيْهِ زِيَادَةُ تَفْصِيْلٍ.
أمَّا أنْ يُرِيْدَ طَالِبُ العِلْمِ الاشْتِغَالَ بِحِفْظِ الأسَانِيْدِ، ثُمَّ يُرِيْدُ مَعَ هَذَا أيْضًا أنْ يَكُوْنَ إمَامًا في التَّفْسِيْرِ والفِقْهِ والعَقِيدَةِ؛ فَهَذَا شَيْءٌ قَدْ انْطَوَى بِسَاطُهُ مِنْ أزْمَانٍ بَعِيْدَةٍ، واللهُ المُسْتَعَانُ.
ومَعَ هَذَا فَهُنَاكَ نَفَرٌ لَا يَتَجَاوَزُوْنَ أصَابِعَ اليَدِ الوَاحِدَةِ مِنْ أهْلِ عَصْرِنَا قَدْ رَامُوْا مِثْلَ هَذِهِ المَرَاتِبِ، مِنَ الحِفْظِ والنُّبُوْغِ والتَّحْصِيْلِ والإحَاطَةِ بِأكْثَرَ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، ومَعَ هَذَا أيْضًا فَإنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِم، والوَاقِعُ شَاهِدٌ على مَا هُنَا، واللهُ خَيْرُ شَاهِدٍ.
* * *
لِذَا؛ فَمَنْ أرَادَ تَسَنُّمَ مَرَاتِبَ المُحَدِّثِيْنَ: فَعَلَيْهِ ألَّا يَقْتَصِرَ على حِفْظِ رِجَالِ الصَّحِيْحَيْنِ فَقَطَ، وإلَّا كَانَ مُغَالِطًا لنَفْسِهِ، مُخَالِفًا لتَرْسِيْمِ أهْلِ الحَدِيْثِ في نَهْجِ حِفْظِهِم للسُّنَّةِ!
فقُلِّي برَبِّكَ! مَا ذَا يُرِيْدُ الطَّالِبُ بحِفْظِ رِجَالِ الصَّحِيْحَيْنِ دُوْنَ حِفْظِ رِجَالِ السُّنَنِ الأرْبَعِ؟
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ رِجَالَ الصَّحِيْحَيْنِ: قَدْ تَجَاوَزُوا القَنْطَرَةَ! كَمَا قِيْلِ.
فَالاقْتِصَارُ على حِفْظِ رِجَالِ الصَّحِيْحَيْنِ فَقَطُ: هُوَ في حَقِيْقَتِهِ تَحْصِيْلُ حَاصِلٍ، لا يَسْتَقِيْمُ والحَالَةُ هَذِهِ مَعَ مَنْ أرَادَ أنْ يَكُوْنَ عَالمًا رَاسِخًا مُتَفَنِّنًا في عَامَّةِ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لأنَّ الزَّمَنَ يَسِيْرُ، والعُمُرُ قَصِيْرٌ، والعِلْمُ كَثِيْرٌ!
كَمَا فِيْهِ: مُنَاغَصَةٌ للإخْلاصِ، ومُدَاخَلَةٌ لسَبِيْلِ الرِّيَاءِ، كَمَا فِيْهِ مُسَارَقَةٌ لحُظُوْظِ النَّفْسِ!
ومَا عَسَاهُ يُرِيْدُ المُقْتَصِرُ على حِفْظِ رِجَالِ الصَّحِيْحَيْنِ؟
فَإذَا كَانَ يُرِيْدُ أنْ يَقِفَ على مَعْرِفَةِ صَحِيْحِ أحَادِيْثِ «الصَّحِيْحَيْنَ» مِنْ ضَعِيْفِهَا، فحَسْبُهُ أنَّ الإجْمَاعَ وَاقِعٌ على صِحَّةِ أحَادِيْثِ «الصَّحِيْحَيْنِ» إلَّا مَا كَانَ في أحْرُفٍ يَسِيْرَةٍ.
¥