كَمَا عَلَيْهِ أنْ يَعْلَمَ: أنَّ للرِّيَاءِ مَوَاطِنَ وعُشَشًا لا يَخْلُو مِنْهَا مَجْلِسُ عِلْمٍ غَالِبًا، لاسِيَّما مَجَالِسُ الامْلاءَاتِ الحَدِيْثِيَّةِ، يَوْمَ كَانَ المُحَدِّثُوْنَ يَتَكَاثَرُوْنَ في سَرْدِ أسَانِيْدِ أحَادِيْثِهِم بَيْنَ طُلَّابِهِم، الأمْرُ الَّذِي دَفَعَ كَثِيْرًا مِنْ أهْلِ الحَدِيْثِ إلى الإمْسَاكِ عَنِ التَّحْدِيْثِ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ والعُجْبِ، (وقَلَّ أحَدٌ سَلِمَ مِنْهُم إلَّا مَنْ سَلَّمَهُ الله، وقَلِيْلٌ مَا هُم!)، لِذَا كَانَ أكْثَرُهُم يَتَحَرَّجُ مِنْ سَرْدِ الأسَانِيدِ إلَّا مَا لا بُدَّ مِنْهُ، وإنْ شِئْتَ أنْ تَقِفَ على أخْبَارِ المُحَدِّثِيْنَ المُسْنِدِيْنَ الصَّادِقِيْنَ، فَلا أخَالُكَ تَجِدُهُم إلَّا في كِتَابٍ أو تَحْتَ تُرَابٍ، أمَّا اليَوْمَ فَلَعَلَّ وعَسَى أنْ يَكُوْنُوا!
لِذَا كَانَ مِن لَطِيْفِ الشَّفَقَةِ والنَّصِيْحَةِ بطَالِبِ الحَدِيْثِ إذَا أرَادَ أنْ يَحْفَظَ نَفْسَهُ مِن دُخُوْلاتِ الرِّيَاءِ والسُّمْعَةِ: فَعَلَيْهِ أنْ يَحْفَظَ أسَانِيْدَ الكُتُبِ السِّتَّةِ جَمِيْعًا، كَيْ يَسْلَمَ مِنْ ذَا وغَيْرِه، لأنَّهُ بحِفْظِهِ للرِّجَالِ جَمِيعًا يَكُوْنُ بَعِيْدًا عَنْ مَظْنُوْنَاتِ الرِّيَاءِ والسُّمْعَةِ، لأنَّ العَادَةَ جَارِيَةٌ بَيْنَ أهْلِ الحَدِيْثِ أنَّ الرَّجُلَ إذَا أرَادَ أنْ يَدْخُلَ في زُمْرَةِ المُحَدِّثِيْنَ: أنْ يَكُوْنَ حَافِظًا لأسَانِيْدِ كُتُبِ السُّنَّةِ، لاسِيَّما أسَانِيْدُ الكُتُبِ السِّتَّةِ، لأنَّهُ بِهَذَا سَوْفَ يَقِفُ ضَرُوْرَةً على مُحَاكَمَةِ رِجَالِ كُتُبِ السُّنَّةِ رَدًّا وقَبُوْلًا، جَرْحًا وتَعْدِيْلًا، لِذَا كَانَ في حِفْظِهِ للرِّجَالِ هُنَا تَحْقِيْقًا لدَعْوَاهُ، وتَصْدِيْقًا لانْتِسَابِهِ للمُحَدِّثِيْنَ، وإلَّا كَذَّبُوا دَعْوَاهُ، وحَذَّرُوا مِنْهُ!
* * *
ثُمَّ سَابِعًا: على طَالِبِ العِلْمِ ألَّا يَقِفَ كَثِيْرًا مَعَ مُرَاجَعَةِ أحَادِيْثِ «البَابِ» الَّذِي قَدْ حَفِظَهُ.
أيْ: لَيْسَ عَلَيْهِ أنْ يَأْخُذَ عَهْدًا على نَفْسِهِ بألَّا يُغَادِرَ بَابًا مِنْ أبْوَابِ «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» إلَّا وقَدْ أتْقَنَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلبٍ، بَل يَكْفِيْهِ مِنْ ذَلِكَ أنْ يُرَاجِعَهُ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلَاثَةً فَقَط، لِأنَّهُ سَوْفَ يَقِفُ ضَرُوْرَةً على مُرَاجَعَةِ أكْثَرِ الأحَادِيْثِ تِبَاعًا، وذَلِكَ عِنْدَ حِفْظِهِ لِمَا سَيَأْتي مِنَ بَقِيَّةِ أحَادِيْثِ «الصَّحِيْحِ»، يُوَضِّحُهُ مَا يَلي:
أنَّ أحَادِيْثَ البُخَارِيِّ، فِيْمَا قِيَلَ: أنَّها تَزِيْدُ على نَيِّفٍ وثَلَاثِمَائَةٍ وسَبْعَةِ آلافِ حَدِيْثٍ بِالمُكَرَّرِ (7397)، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ في طَبْعَةِ الرِّسَالَةِ نَاشِرُوْنَ.
وبِدُوْنِ المُكَرَّرِ نَحْوُ ألْفَيْنِ وسِتِّمَائَةِ حَدِيْثٍ تَقْرِيْبًا (2600)، الأمْرُ الَّذِي سَيَقِفُ بطَالِبِ العِلمِ ضَرُوْرَةً على مُرَاجَعَةِ أكْثَرِ الأحَادِيْثِ الَّتِي مَرَّتْ مَعَهُ سَابِقًا.
وبِهَذَا؛ يَسْتَطِيْعُ حَافِظُ «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» أنْ يَقْطَعَ بِأنَّهُ في حَقِيْقَةِ الأمْرِ لم يَحْفَظْ مِنَ «الصَّحِيْحِ» إلَّا أقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ تَقْرِيْبًا، بِمَعْنَى أنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ إلَّا الأصُولَ غَيْرَ المُكَرَّرَةِ، ومَا جَاءَ بِطَرِيْقِ التَّكْرَارِ فَهُوَ زِيَادَةٌ لَهُ في الحِفْظِ والتَّذْكِيْرِ لمَا مَضَى مِنَ الأحَادِيثِ.
* * *
ثُمَّ ثَامِنًا: عَلَيْهِ أيْضًا بَعْدَ حِفْظِهِ «لِصَحِيْحِ البُخَارِيِّ» ألَّا يَقِفَ كَثِيْرًا مَعَ مُرَاجَعَتِهِ.
أيْ: لَيْسَ عَلَيْهِ أنْ يَأْخُذَ عَهْدًا بِألَّا يُغَادِرَ «صَحِيْحَ البُخَارِيِّ»؛ حَتَّى يُتْقِنَهُ حَدِيْثًا حَدِيْثًا.
بَل عَلَيْهِ أنْ يَنْتَقِلَ إلى حِفْظِ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» مُبَاشَرَةً، لِأنَّهُ سَوْفَ يَقِفُ ضَرُوْرَةً على مُرَاجَعَةِ أحَادِيْثِ «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» تِبَاعًا، وذَلِكَ عِنْدَ حِفْظِهِ لأحَادِيْثِ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ»، يُوَضِّحُهُ مَا يَلي:
¥