ولم يرد عن أحد من المتقدمين مفسرين وغيرهم، قصر الحكم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال ذلك بعض المحدثين، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ولو كان الحكم خاصا بالأزواج لكون الخطاب جاء لهن، لكانت الشريعة كلها خاصة بالصحابة، حيث كان الخطاب إليهم حينئذ.
وأما نصوص الحجاب. فقوله تعالى:
- "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب".
- "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن".
ومن المتفق عليه بلا خلاف: أن النساء مأمورات بالاستتار عن أعين الرجال؛ فالحجاب من الحجب وهو المنع والحجز، وذلك بستر البدن وتقاسيمه وتفاصيله، فيشترط فيه جلباب:
- سابغ لستر البشرة.
- وواسع لستر تقاسيم البدن.
فكيف يمكن الامتثال لهذا الحكم في بيئة مختلطة؟.
إن ذلك لمحال؛ لأن الحجاب مجرد خرقة وقماش ينسدل على بدن المرأة، يتحرك بحركتها، فانكشاف شيء من بشرتها، أو بدوّ تفاصيل وتقاسيم بدنها وارد بل حاصل، إنها لا تأمن ذلك وهي تمر في الطريق والسوق مرور الكرام، فإذا صارت في اختلاط منظم، فمن المحال أن تحترز، وهي المضطرة للقيام والقعود، والدخول والخروج، والانحناء والالتفات على الدوام؛ لطول المكث، وللحاجة إلى ذلك.
وهذه سمة في الاختلاط المنظم: طول المكث لساعات قرب الرجال.
فالتستر في الاختلاط تكليف بما لا يطاق، والله إذا حرم شيئا حرم وسائله؛ حرم الخمر فحرم بيعه وشراءه. وحرم الربا فحرم كتابته والشهادة عليه، كذلك حرم على المرأة إبداء زينتها، وحرم كل وسيلة وذريعة محققة إلى ذلك، كالاختلاط الطويل.
فتحقيق الحكمة من الحجاب (= ستر البشرة وتقاسيم البدن) في اختلاط منظم متعذر غاية التعذر، وما كان الشارع ليأمرها بالاستتار، ثم يبيح لها الاختلاط، إن هذا عين التناقض، ولا تناقض في الشريعة. قال تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا".
وأما نصوص غض البصر.
فقوله تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن .. ".
غض البصر من الرجال عن محاسن المرأة؛ سواء البشرة إذا انكشفت، أو تقاسيم البدن إذا بدت من وراء الحجاب: مأمور به.
وسواء قيل بوجوب تغطية الوجه والكفين أم لا، فإن غض البصر واجب عن سائر البدن.
والشاهد من هذا الدليل: أن الغض متعذر بل ممتنع في الاختلاط المنظم؛ لطول المكث في مجلس واحد، فصرف البصر من كليهما غير ممكن، وتحوط المرأة في حجابها شاق؛ إذ طول المقام يلجئها إلى تغيير أوضاعها، مما سيبدي حتما ما يجب ستره.
فما كان الشارع ليأمر بغض البصر من كليهما، ثم يبيح اختلاطهما على هذه الصورة، فإن في الإباحة تحريضا وتيسيرا للنظر، وإتباعه بنظرة أخرى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "يا علي!، لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة". رواه الترمذي، وصححه الألباني.
فالمختلط إذا قدر على الغض في الأولى، فهل سيصمد في الثانية، أو الثالثة إلى المائة، وهي كذلك، هما كل يوم في لقاءات مستمرة لساعات طويلة، قد تبلغ الثمان والعشر؟.
وعن نصوص التحذير من فتنة النساء. قال صلى الله عليه وسلم:
- (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء). رواه البخاري.
- (واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). رواه مسلم.
وصف المرأة بأنها فتنة؛ بمعنى أنها إغراء للرجل، تقوده إلى مواقعتها، بقصد منها أو حتى بدون قصد؛ إذ هي بذاتها مصدر إغراء له، حتى لو لم ترد إغراءه، وبهذا صار للنسل امتداد وبقاء، فإغراؤها ليس عيبا ولا نقصا، بل مطلب في المباح لتحقيق مصالح للرجل والمرأة من التمتع والرحمة والمودة والذرية.
وأمر باتقائها، والمعنى: اجتناب فتنتها وإغرائها، ليس المنهي مواقعتها بالفاحشة فحسب، بل باجتناب المقدمات أيضا، من: نظر، وكلام لين، وسماع بتلذذ، ولمس باليد إلى غير ذلك. فقد نهى عن كل هذه المقدمات، وأبلغ حين قال: (العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا). رواه مسلم.
¥