ليست بقولية، والمعلوم عن أهل الأصول والفقهاء والمحدثين، من حيث المبدأ والأصل:
أن القول مقدم على الفعل، وأن ما كان أمرا بالقول فهو مقصود لذاته؛ لأنه موضوع للدلالة على الأمر، بلا خلاف، وهو يدل على الوجوب بنفسه من غير واسطة.
والدليل يؤكد هذا، فإن الله تعالى يقول: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم"، فقال: {عن أمره}، والأمر هو القول، قال تعالى: "ولكن حق القول مني: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين".
فأما الفعل فإنه قد يكون مقصودا، وقد لا يكون مقصودا، وقد يكون عمدا، وقد يكون سهوا، كما تقدم في مثال استقبال القبلة في قضاء الحاجة، فلا يأخذ منه حكم ابتداءً، لكن القول يؤخذ منه. فقول النبي صلى الله عليه وسلم يتعدى إلى غيره بنفسه، بخلاف فعله، فلا يتعدى إلا بدليل. فإذا اجتمعا كان التمسك بقوله، وحمل فعله على التخصيص ونحوه هو الواجب.
قال الزركشي في البحر المحيط 6/ 177:
"أن يكون أحدهما قولا والآخر فعلا، فيقدم القول؛ لأن له صيغة، والفعل لا صيغة له".
والكلام نفسه بحروفه ذكره الشوكاني في إرشاد الفحول 2/ 393.
وقال الزركشي أيضا 4/ 198: "مذهب الجمهور: تقديم القول:
- لقوته بالصيغة.
- وأنه حجة بنفسه.
وظاهر كلام ابن برهان أنه المذهب.
وجزم به إلكيا. قال: لأن فعله لا يتعدى إلى غيره إلا بدليل، وحق قوله أن يتعداه، فإذا اجتمعا تمسكنا بقوله، وحملنا فعله على أنه مخصوص به.
وكذا جزم به الأستاذ أبو منصور، وصححه الشيخ في اللمع، والإمام في المحصول، والآمدي في الأحكام، والقرطبي وابن حزم".
قال في الكوكب المنير 2/ 202: " (وإن جهل) هل تقدم الفعل على القول، أو تأخر عنه (وجب العمل بالقول) دون الفعل؛ لأن القول أقوى دلالة على الفعل:
- لوضعه لها.
- ولعدم الاختلاف في كونه دالا.
- ولدلالته على الوجوب وغيره بلا واسطة.
- ولأن القول يدل على المعقول المحسوس، فيكون أعم فائدة".
الثاني: أنها متشابهة.
أي محتملة لأكثر من معنى، كما سنبين في المثال الآتي، والنصوص المتشابهة لا يؤخذ من معانيها إلا المعنى الموافق للمحكم، ويطرح ما عداه، لكن المبيحين أخذوا المعنى المعارض للمحكم، وطرحوا الموافق له، عكس سبيل المؤمنين العلماء الراسخين في العلم.
الثالث: أنها مبيحة.
تقابلها نصوص تقتضي الحظر، والحظر مقدم على الإباحة؛ لأن المحرمات يحتاط لإثباتها ما أمكن.
قال الرزكشي في البحر المحيط 6/ 170: "أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط؛ أن يقتضي الحظر، والآخر الإباحة، فيقدم مقتضى الحظر؛ لأن المحرمات يحتاط لإثباتها ما أمكن، ولحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ".
وفيه 6/ 171: "أن القاضي بكار سأل المزني: يا أبا إبراهيم!، جاء في الأحاديث تحريم النبيذ، وجاء تحليله، فلم قدمتم التحريم على التحليل؟. فقال المزني: لم يذهب أحد من العلماء إلى أن النبيذ كان حراما في الجاهلية ثم نسخ، ووقع الاتفاق على أنه كان حلالا، فهذا يعضد الأحاديث بالتحريم. فاستحسن ذلك منه".
وعلى النسق نفسه نقول: لم يذهب أحد من العلماء إلى أن الاختلاط كان حراما في الجاهلية ثم نسخ، ووقع الاتفاق على أنه كان حلالا أو مباحا غير محرم، فهذا يعضد الأحاديث بالتحريم؛ أي يدل على نسخ الإباحة.
الرابع: أنها على أصل البراءة.
والتحريم والحظر ناقل، والناقل عن الأصل مقدم؛ لأن فيه زيادة وهو الحكم بالتحريم، أما الأصل والبراءة فليس فيه حكم، بل مسكوت عنه، جارٍ على العادة.
قال الزركشي 6/ 169: "أن يكون أحد الخبرين مفيدا لحكم الأصل والبراءة، والثاني ناقلا، فالجمهور على أنه يجب ترجيح الناقل".
فدلالة نصوص الإباحة ضعيفة لواحد من هذه الأمور منفردا، فكيف بها مجتمعة؟.
أي لو فرض عدم معرفة تاريخ المتقدم والمتأخر والمنسوخ والناسخ، لكانت هذه الأمور الأربعة –منفردة أو مجتمعة- كافية في إبطال الإباحة وتقديم الحظر والتحريم، كيف وقد علم يقينا أن هذه النصوص لا تعارض التحريم، كونها في غير محل النزاع.
فكونها في غير محل النزاع، فلثلاثة أمور:
الأول: أنها نصوص كانت قبل الحجاب.
¥