وإباحة أشياء أخرى فيها مثل ما في الخمر، ولأجله لا يصح – ديانة - لمن لم يعرف الطريق أن يتطفل عليه، حتى يتفقه ويعرف طرق التأويل والاستنباط والقياس، ويتعلم الأصول والقواعد الفقهية، ويحيط بالناسخ والمنسوخ وما كان أصلا أو استثناءً، وحال الضرورة والسعة، ومراتب الأوامر النبوية.
والاختلاط فيه نصوص متعارضة، وليس هو بدعة في هذا، بل لو نظرت في سائر الأحكام الشرعية لوجدت فيها من التعارض ما في الاختلاط بل أشد، فلو أعملت نصوص الإباحة، عطلت نصوص التحريم. ولو أعملت التحريم عطلت الإباحة. فكان لا بد من الجمع والدراسة. فكيف ذلك؟
بني تحريم الاختلاط وتأسس وتأصل وفق أنواع منوعة من النصوص، وهي نصوص في غاية الرسوخ والثبوت والقوة، محكمة قطعية: قولية، وفعلية مؤيدة بالقولية، متأخرة ناسخة، أصل وأساس وقاعدة، لا يملك أحد تبديلها ولا تحريفها.
وهي نصوص دالة على التحريم، إما بالمطابقة، أو التضمن، أو اللزوم، فقد احتوت على أنواع الدلالات الثلاث كلها.
فأما الإباحة فبنيت على نصوص متشابهة ظنية: فعلية لا قولية، استثناء، وحالة ضرورة، متقدمة منسوخة، وبعضها ليست مصدرا للتشريع؛ كونها ليست صادرة من صاحب الشريعة، بل ممن يؤخذ من قوله وفعله ويرد.
وسأعرض كيف بني التحريم، ثم الإباحة؛ ليتبين لمن اتسع إدراكه وخلي من التخبط والميل، فرق ما بين البنائين؛ بنيان تأسَّس على المحكمات القطعيات، وبنيان تأسَّس على المتشابهات الظنيات.
* * *
نصوص التحريم:
إن التحريم تأسَّس وفق:
نصوص القرار، والحجاب، وغض البصر، والتحذير من فتنة النساء، والمباعدة بين النساء والرجال.
فأما القرار، فدليله قوله تعالى: "وقرن في بيوتكن".
وحِكَمُ القرار متعددة، منها: التباعد عن الرجال.
يدل على هذه الحكمة قوله عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان). أي زيَّنها في أعين الناظرين. وهذا ما يحصل حقا، فإذا قرّت فلم تخرج إلا لحاجة أو ضرورة قللت فُرَصَهُ لاستشرافها، فإذا ما خالطت لم يعد للقرار معنى؛ فإذا ما نسب للشارع إباحة الاختلاط، تبادر إلى الذهن، كيف يأمر بالقرار ثم يبيح الاختلاط؟!.
ولذا فمن أباح الاختلاط، ادعى أن الأمر بالقرار خاص بأزواج النبي عليه السلام ... هكذا؟!!.
نعم، قد ورد الخطاب موجَّها إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لكن حكمه عام، بدلالة نصوص السنة؛ ففي أحاديث كثيرة أمر للنساء بالقرار، كحديث أم حميد الساعدي، وفيه: (صلاتك في بيتك خير من صلاتك في مسجدي). قال القرطبي: "معنى الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة".
ولم يرد عن أحد من المتقدمين مفسرين وغيرهم، قصر الحكم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال ذلك بعض المحدثين، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ولو كان الحكم خاصا بالأزواج لكون الخطاب جاء لهن، لكانت الشريعة كلها خاصة بالصحابة، حيث كان الخطاب إليهم حينئذ.
وأما نصوص الحجاب. فقوله تعالى:
- "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب".
- "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن".
ومن المتفق عليه بلا خلاف: أن النساء مأمورات بالاستتار عن أعين الرجال؛ فالحجاب من الحجب وهو المنع والحجز، وذلك بستر البدن وتقاسيمه وتفاصيله، فيشترط فيه جلباب:
- سابغ لستر البشرة.
- وواسع لستر تقاسيم البدن.
فكيف يمكن الامتثال لهذا الحكم في بيئة مختلطة؟.
إن ذلك لمحال؛ لأن الحجاب مجرد خرقة وقماش ينسدل على بدن المرأة، يتحرك بحركتها، فانكشاف شيء من بشرتها، أو بدوّ تفاصيل وتقاسيم بدنها وارد بل حاصل، إنها لا تأمن ذلك وهي تمر في الطريق والسوق مرور الكرام، فإذا صارت في اختلاط منظم، فمن المحال أن تحترز، وهي المضطرة للقيام والقعود، والدخول والخروج، والانحناء والالتفات على الدوام؛ لطول المكث، وللحاجة إلى ذلك.
وهذه سمة في الاختلاط المنظم: طول المكث لساعات قرب الرجال.
¥