ولا عجب من الوصول إلى هذا الحال؛ فهو يؤكد ما تقدم: أن الحجاب والاختلاط المنظم يتنافيان.
- أما عن موقفهم من نصوص غض البصر. فلما علموا استحالة غض البصر في الاختلاط، حرفوا معنى الأمر الإلهي؛ ليتلاءم مع حياة الاختلاط.
فعندهم: يغض بصره إذا خشي الفتنة.
فانظر إلى هذا التحريف البيّن: أمرت الآية بغض البصر ابتداءً، منعا للفتنة ..
وهم يبيحون النظر والاسترسال، حتى إذا خشي الفتنة، أمروه بالكف.
فمن يتبعون: آلآية، أم أهواءهم؟.
- وعن نصوص الفتنة والاتقاء للنساء، هم يغضون البصر، ويكفون عن التأمل.
ونحن نتكلم عن المنتسبين للعلم والدعوة، أما غيرهم فيسخرون منها، وهم يعلمون أنها كلام نبوي شريف قاله ونطق به من لا ينطق عن الهوى، فيقولون: لا يزال فينا إلى اليوم من يعتقد أن المرأة عورة، وأنها فتنة؟؟!! ..
- وإذ نأتي إلى نصوص المباعدة والفصل، فإنهم كانوا أشد إعراضا لها.
ألقوها خلفهم ظهريا، ولم يرفعوا رأسا بفصله صلوات الله وسلامه عليه بين النساء والرجال في المساجد، وعند أبوابها، والطرقات، وفي مجالس العلم، وفي المواعظ والدروس والشورى والسفر والحضر والتجارات والأعمال.
إنما عارضوها بما ظنوه مبيحا للاختلاط، في الطواف والأسواق والجهاد، ولم يتفكروا:
إذا كانت هذه تبيح وتلك تمنع، فكيف جاز لهم تقديم الإباحة وتعطيل المنع، فأيهما الأولى بالتقديم؟.
كان الأولى بهم النظر، لتحديد ما يكون هو الفرض والواجب تقديمه، فإن اعتاص عليهم، قلدوا الراسخين في العلم، وحينئذ لن يملكوا إلا تقديم النصوص القولية المؤيدة بالتطبيقات العلمية -وهذه حال ووصف النصوص المحرمة للاختلاط- على النصوص العملية غير المؤيدة بالقولية، وهذه حال ووصف المبيحة، والتي فوق ذلك هي محتملة متشابهة؛ لها أكثر من معنى.
قال الله تعالى: "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما".
* * *
نصوص المبيحين:
أتينا إلى ما ظنوا حجة ورأيا سديدا .. وحين يكمل عقل المرء ودينه وفقهه، يكفيه ما مضى من تأصيل لتأسيس الحكم لديه، ومعرفة ماذا شرع الله تعالى في العلاقة بين الجنسين.
فإذا ما عرض له شيء ظاهره يخالف ما تقرر وتأصل وتأسس، فإنه يلجأ إلى تخريجه والجواب عنه بما يحفظ الأصل ويقره، فهذا حال الراسخين في العلم والمؤمنين، أما حال غيرهم ممن قصر فقهه أو ممن زاغ وابتغى الفتنة، فَيَدَعون الأصل؛ ليعتنوا بالعارض الطارئ، فيجعلوه هو الأصل، على شذوذه وضعفه، فيستنبطوا منه حكما أصليا ثابتا، ينقضون به الثابت المستقر الصادر بالأمر الإلهي.
فحالهم كحال الذي بلغه: أن الحاكم أصدر مرسوما بمنع البيع والشراء بعد الثانية عشرة ليلا، وأعلن ذلك على الجميع، وتأكد بمراسيم أخرى، ثم مر يوما فرأى صيدلية تفتح أبوابها في الواحدة صباحا، ثم تكرر منه رؤية ذلك، ومر فوجد دكانا كبيرا يبيع في الثالثة صباحا، إلى جانبه آخر صغير كذلك.
وفي الأثناء أخذ كتابا قديما، فقرأ فيه: أن الناس في هذه البلدة يتبايعون ليلا ونهارا.
فاستنبط من ذلك: أن المرسوم قد ألغي. والدليل: هذه المحَاَلّ المفتوحة، وما في الكتاب القديم من خبر. بل زاد على ذلك: عجبه من إحجام البقية عن استغلال هذا الإذن، والعودة لمنافع البيع والشراء.
وما درى هذا: أن تلك المحال مستثناة من المرسوم، لحاجة الناس الدائمة، والمرسوم على حاله من المنع. أما الدكان الصغير، فهو مخالف يستحق العقوبة، وما في الكتاب القديم، كان قبل الأمر.
والقصد: أنه ما من أمر سواءً كان إلهيا، أو بشريا. وإلا ويعتريه استثناءات للحاجة والضرورة، وهناك من يخرقه ويخالفه قصدا، ومن يخالفه سهوا ونسيانا. فلو كانت هذه الأحوال المخالفة -بعذر أو بدون عذر- سببا كافيا لإلغاء الأمر، لألغيت الأوامر كلها، وما ثبت أمر ألبتة.
وهكذا أحكام الشريعة، فيها أمر عام، يتأسس بالنصوص الصحيحة والصريحة في المعنى، كنصوص منع الاختلاط، ثم يطرأ عليها أحوال استثنائية، أو يوجد من يخالفها، لكنها لا ترقى أن تبطلها.
¥