الرابع: أنها على أصل البراءة.
والتحريم والحظر ناقل، والناقل عن الأصل مقدم؛ لأن فيه زيادة وهو الحكم بالتحريم، أما الأصل والبراءة فليس فيه حكم، بل مسكوت عنه، جارٍ على العادة.
قال الزركشي 6/ 169: "أن يكون أحد الخبرين مفيدا لحكم الأصل والبراءة، والثاني ناقلا، فالجمهور على أنه يجب ترجيح الناقل".
فدلالة نصوص الإباحة ضعيفة لواحد من هذه الأمور منفردا، فكيف بها مجتمعة؟.
أي لو فرض عدم معرفة تاريخ المتقدم والمتأخر والمنسوخ والناسخ، لكانت هذه الأمور الأربعة –منفردة أو مجتمعة- كافية في إبطال الإباحة وتقديم الحظر والتحريم، كيف وقد علم يقينا أن هذه النصوص لا تعارض التحريم، كونها في غير محل النزاع.
فكونها في غير محل النزاع، فلثلاثة أمور:
الأول: أنها نصوص كانت قبل الحجاب.
كحديث دخوله صلى الله عليه وسلم على أم حرام وأم سليم، وإضافة الرجل وزوجه للضيف وأكلهما معه، وخدمة أم أسيد الحضور من الرجال يوم عرسها، ودخول عائشة على أبيها وبلال لما قدما المدينة وبهما حمى يثرب، ووضوء الرجال والنساء جميعا وغير ذلك، فكل هذه عليها قرائن ثابتة تبين أنها كانت قبل نزول الحجاب في نهاية السنة الرابعة، فلا حجة فيها إذن.
فحديث أم سليم وأم حرام سيأتي تفصيله، وحديث الضيف يدل على فقر كان بالصحابة، حيث لم يتعرض لإضافته سوى هذا الرجل، ولم يكن معه شيء هو أيضا، إلا قوت أولاده، وكذلك الناس كانوا قبل نهاية السنة الرابعة (= سنة الحجاب)، حتى فتح عليهم من الرزق بعد ذلك.
وأم أسيد ولدت أسيدا، وهو معدود في الصحابة، فمن المقطوع به أنه ولد قبل الحجاب، وإلا كان عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين.
وعائشة إنما دخلت على أبيها وبلالاً في أول مقدمهم إلى المدينة، حيث كان بها حمى يثرب، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فنقل حماها إلى الجحفة.
ووضوء الرجال والنساء جميعا قطعا كان قبل الحجاب، لو كان معنى "جميعا": في آن واحد، من إناء واحد. لأنه بالاتفاق لا يجوز للمرأة تبدي للأجنبي قدمها، وساعدها حتى المرفق، ورأسها وشعرها وأذنها، وكل ذلك من مواضع الوضوء، فوضوءها عند الرجال يعني كشف كل ذلك. وكلام الشارع لا يتناقض، حيث أمرها بستر كل ذلك أمرا صريحا.
الثاني: أنها كانت مع محارم.
كما قد ذهب بعض العلماء في حق أم حرام وأم سليم أنهما كانتا خالتي النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع، حيث رضعن مع أمه آمنة، والتي كان أخوالها من الأنصار، وكذا في قصة المرأة التي كان تفلي شعر أبي موسى الأشعري في حجة الوداع، يحتمل أنها كانت من محارمه.
الثالث: أنها حالات استثنائية:
- فمنها ما كان ضرورة وحاجة، كخروج النساء للجهاد؛ لقلة الرجال، فلما كثروا قلَّ خروجهن، وحضورهن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم للسؤال والشكوى ونحوه، وخروجهن للسوق والصلاة والطواف والحج، كل ذلك يقع فيه اختلاط، لكن لا بد منه، فتسامح فيه الشارع، ولم يؤاخذ به.
- ومنها أن المختلطة كبيرة، بالغة سن اليأس، في مقام الأم والجدة، كما قد يقال كذلك في قصة المرأة فَلَتْ شعر أبي موسى الأشعري، وهو وجه ثان في التخريج؛ فإذا لم يثبت محرميتها له، فيحتمل أنها كبيرة لا تشتهى، وحكمها بالقطع ليس كحكم الشابة، فإن لها أن تضع خمارها، فتكشف عن وجهها غير متبرجة بزينة، كما في الآية، فإن احتيج إليها في تطبيب ونحوه فلا بأس. وكذلك حديث سهل بن سعد في إطعام المرأة لهم يوم الجمعة، فإنها كانت كبيرة، وهم صبية، وفيه تخريج آخر: أنه لا يلزم من إطعامها جلوسها معهم، بل مجرد تقريب الطعام، وذلك لا مؤاخذة فيه.
- ومنها ما كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما في إرداف أسماء، وهكذا كان جواب بعض العلماء الذين لم يثبت عندهم قرابة أم سليم وأم حرام للنبي صلى الله عليه وسلم، فجنحوا إلى الخصوصية، وهو وارد، حيث عصمته من الإثم في هذا يقيني، وليس لغيره مثل هذه العصمة، ثم هو أب للمؤمنين، يزوجهن بغير ولي، كما أن أزواجه أمهاتهم. يدل عليه: أن أحدا من الصحابة لم يقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدخول على الأجنبيات.
وهكذا نكون قد أجبنا، ووضعنا ميزانا لحل كل ما يورده المبيحون من أدلة، لا يزالون يختلقونها اختلاقا بأدنى صلة، وبعضها لا صلة لها بمحل النزاع أصلا.
¥