وكان يَرَى أنَّ على طالبِ العلم أن يَطلُبَ العلم، وأن يُزِلَّ نفسه في طلبه، حتى يورثَه ذلك عِزًّا طويلاً، فيقول: "رُبَّ كلمةِ ذُلٍّ احتملتُها أوْرَثتْني عزًّا طويلاً"؛ "صفة الصفوة" (1/ 293).
وأنت لو قلَّبْتَ أيَّ ديوان من دواوين السنَّة، لوجدتَ رواية عروة عن عائشة كثيرة جدًّا، وإن دلَّ على شيء، فإنَّما يدلُّ على كثرةِ ملازمته لها.
قال قبيصة بن ذؤيب: كان عروةُ يغلبنا بدخوله على عائشة، وكانتْ عائشةُ أعلمَ الناس، وكان عروةُ أعلمَ الناس بحديث عائشة؛ "تهذيب التهذيب" (7/ 164).
حَمَل عِلم عائشة؛ ذكر أبو نعيم في "الحلية" (2/ 176)، والذهبي في "السير" (4/ 431): "أنَّه كان جالسًا في فناء الكعبة ومعه عبدالله بن عمر، ومُصْعَب بن الزبير، وعبدالله بن الزبير، فقال لهم مُصْعَب: تَمنَّوا، فقالوا: "ابدأ أنت" ... قال عروة: وأتمنَّى الفِقه، وأن يُحمَل عني الحديث، فنال ذلك.
وصار عروةُ مِن أثبت الناس في عائشة، حتى قال: لقدْ رأيتُني قبل موْت عائشة بأربع حِجج، أو خمْس حجج، وأنا أقول: "لو ماتتِ اليومَ ما ندمتُ على حديث عندَها إلا وقد وَعَيْتُه"؛ "سير أعلام النبلاء" (4/ 424).
قال هشام، عن أبيه: ما ماتتْ عائشة حتى تركتُها قبل ذلك بثلاث سِنين؛ "سير أعلام النبلاء" (4/ 424).
ولم يقفْ تأثُّر عروة - رحمه الله - بالسيِّدة عائشة عندَ حدود العلم، فقد تعدَّى ذلك إلى التأثُّرِ بأخلاقها وشمائلها عامَّة، وعبادتها أيضًا.
فعن ضَمْرةَ بن ربيعة، عن ابن شوذب، قال: كان عروةُ بن الزبير يقرأ رُبُعَ القرآن كلَّ يوم نظرًا في المصحف، ويقوم به الليلَ، فما ترَكَه إلا ليلةَ قُطِعت رِجلُه، ثم عاود جروه من الليلة المُقْبِلة، وكان وقع في رجله الأَكَلة فنشَرها، وكان عروة إذا كان أيَّامُ الرطب ثَلَم حائطَه، فيدخل الناس فيأكلون ويحملون، وكان إذا دخَله، ردَّد هذه الآية: ? وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ? [الكهف: 39]، حتى يخرج؛ "السير" (4/ 426).
وذكر عليُّ بنُ المبارك الهنائي، عن هشام بن عُرْوة: أنَّ أباه كان يصوم الدهر كلَّه إلاَّ يوم الفطر ويوم النَّحْر، ومات وهو صائِم؛ "السير" (4/ 436).
تُوفِّي - رحمه الله ورضي عنه - سنة أربعٍ وتِسعين، ودُفِن يوم الجُمُعة.
من أقواله - رحمه الله -:
• إذا رأيتَ الرجل يعمل الحَسَنة، فاعلم أنَّ لها عندَه أخوات، وإذا رأيتَه يعمل السيئة، فاعلم أنَّ لها عندَه أخوات؛ فإنَّ الحسنة تدلُّ على أختها، وإنَّ السيئة تدلُّ على أختها؛ "تهذيب التهذيب" (7/ 165).
• ما حدثتَ أحدًا بشيء من العِلم قطُّ لا يبلغه عقلُه، إلاَّ كان ضلالةً عليه؛ "سير أعلام النبلاء" (4/ 437).
• لتكن كلمتُك طيبة، وليكن وجهُك بسطًا، تكُنْ أحبَّ إلى الناس ممَّن يُعطيهم العطاء؛ "الحلية" (2/ 178).
• إذا جعَل أحدُكم لله - عزَّ وجلَّ - شيئًا، فلا يجعلْ له ما يستحي أن يجعلَه لكريم، فإنَّ الله أكرمُ الكرماء، وأحقُّ مَن اختير له؛ "صفة الصفوة" (1/ 294).
2 - القاسم بن محمد بن أبي بكر - رحمه الله تعالى -:
هو الإمام القُدوة، أبو عبدالرحمن، التيمي المَدني، الفقيه، قُتِل أبوه وهو صغير، فتربَّى يتيمًا في حجْر عمَّته عائشة - رضي الله عنها - فتفَقَّه بها.
قال عنه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 183): "الفقيه الوَرِع، الشفيق الضَّرِع، نَجْل الصِّدِّيق، ذو الحَسَب العتيق، القاسِم بن محمد بن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، كان لغوامضِ الأحكام فائقًا، وإلى محاسن الأخلاق سابقًا".
قال ابن سعد في "الطبقات" (5/ 193): "كان رفيعًا عاليًا فقيهًا، كثيرَ الحديث وَرِعًا".
قلت: وحديثه في الكتب الستَّة.
اهتمَّتْ به السيدةُ عائشة بعد مقْتل أبيه كثيرًا، وكان يَذكُر ذلك، فيقول: "كانت عائشةُ تَحلِق رؤوسنا عشيةَ عرَفَة، ثم تحلقنا وتبْعَثُنا إلى المسجد، ثم تُضحِّي عندنا مِنَ الغد"؛ "الطبقات" (5/ 187).
وَرِثَ عن عمَّته ومُعلِّمته عائشة - رضي الله عنها - روايةَ السنَّة، حتى قيل: "أعْلمُ الناس بحديثِ عائشةَ ثلاثة: (القاسم، وعروة، وعَمْرة بنت عبدالرحمن)؛ تهذيب التهذيب (12/ 389).
¥