وأضاف إلى رِوايةِ السنَّة الفِقه؛ قال أبو الزناد: "ما رأيتُ فقيهًا أعلم من القاسم، وما رأيتُ أحدًا أعلم بالسُّنَّة منه، وكان الرجلُ لا يُعدُّ رجلاً حتى يعرفَ السُّنَّة"؛ "الحلية" (2/ 183).
وفي روايةٍ أخرى: "وما رأيتُ أحدَّ ذِهنًا من القاسِم، إنْ كان ليضحَك مِن أصحاب الشُّبَه كما يضحَك الفتَى"؛ "السير" (5/ 56).
وكان عفيفًا ورعًا، كريمًا متواضعًا، ناسيًا حظَّ نفسه، وكان السَّلَف يتشبَّهون به في عبادته؛ قال ابنُ وهب: ذكَر مالكٌ القاسمَ بن محمد، فقال: كان مِن فقهاء هذه الأمَّة، ثم حدَّثني مالك أنَّ ابن سيرين كان قد ثَقُل وتخلَّف عن الحجِّ، فكان يأمُر مَن يحجُّ أن ينظر إلى هدي القاسم ولُبوسِه وناحيته، فيبلغونه ذلك، فيقتدي بالقاسم؛ "السير" (5/ 57).
قال أيوبُ السختياني: ما رأيتُ رجلاً أفضل من القاسِم، لقد ترك مائةَ ألف، وهي له حلال؛ "تذكرة الحفاظ" (1/ 75).
ومِن وَرعِه في العِلم ما ذكَرَه أيوب السختياني، قال: سمعتُ القاسم يُسأل بمنًى، فيقول: لا أدْري، لا أعْلم، فلمَّا أكثروا عليه قال: والله لا نعلمُ كلَّ ما تسألونا عنه، ولو علمنا ما كتَمْناكم، ولا حلَّ لنا أن نكتمَكم؛ "صفة الصفوة" (1/ 295).
"وكان عمرُ بن عبدالعزيز متأثِّرًا به، علمًا وزهدًا وورعًا وأُخُوَّةً في الله، ويقول: لو كان لي مِن الأمر شيءٌ، لاستخلفتُ أُعَيْمش بني تيم؛ يعني: القاسم"، وروى الواقديُّ: أنَّها بلغتِ القاسم، فقال: إني لأضعُف عن أهلي، فكيف بأمْر الأمَّة؟! "تذكرة الحفاظ" (1/ 75)، "سير أعلام النبلاء" (5/ 59).
وبلغ مِن عدم تزكيته لنفسه أنَّ أعرابيًّا جاءه، فقال: أنت أعلمُ، أمْ سالم؟ قال: ذاك منزلُ سالِم، فلم يزدْه عليها حتى قام الأعرابي.
قال: محمَّد بن إسحاق معلقًا: كَرِه أن يقول: هو أعلمُ مني فيكذب، أو يقول: أنا أعلم منه فيزكي نفْسَه.
قال الذهبي معلقًا: وكان القاسمُ أعلمَهما؛ "سير أعلام النبلاء" (5/ 56).
مات القاسِم بن محمَّد بيْن مكة والمدينة حاجًّا أو معتمرًا، فقال لابنه: سُنَّ على التراب سنًّا، وسوِّ على قبري، والْحَقْ بأهلك، وإيَّاك أن تقول: كان وكان؛ "الحلية" (2/ 182).
وفي "السير" (5/ 60): إنَّه مات بقديد، وقال: كفِّنوني في ثيابي التي كنتُ أصلِّي فيها: قميصي، ورِدائي؛ هكذا كُفِّن أبو بكر.
وكان موته سَنَةَ ثمانٍ ومائة.
من أقواله - رحمه الله -:
• لأنْ يعيشَ الرجلُ جاهلاً بعدَ أن يعرِفَ حقَّ الله عليه خيرٌ له من أن يقول ما لا يَعْلم؛ "السير" (5/ 57).
• كان إذا سُئِل عن حُكْم مسألة، قال: أرَى، ولا أقول: إنَّه الحق؛ "الطبقات" (5/ 187).
• وقال لقومٍ يذكرون القَدَر: كفُّوا عمَّا كفَّ الله عنه؛ "الطبقات" (5/ 118).
3 - مسروق بن الأجدع - رحمه الله تعالى -:
الإمام، القُدوة، العَلَم، أبو عائشة الوادعي، الهَمْداني، الكوفي
مسروق بن الأجدع بن مالك بن أُميَّة بن عبدالله.
حديثُه في الكتب السِّتَّة، معدودٌ في كبار التابعين، وفي المخضْرمين الذين أسْلَموا في حياةِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
سُمِّي مسروقًا؛ يقال: إنَّه سُرِق وهو صغير، ثم وُجِد فسُمِّي مسروقًا، وأسلم أبوه الأجدع؛ "تاريخ بغداد" (13/ 232).
كَفَلَتْه عائشةُ - رضي الله عنها - فلازَمَها، وحمَل عنها عِلمًا كثيرًا، وأحبَّها حُبًّا عظيمًا؛ إكرامًا لها، وتبجيلاً لقَدْرها.
روى سعيدُ بن عثمان التَّنُّوخيُّ الحِمصي: حدَّثَنا عليُّ بن الحسن السامي، حدَّثَنا الثوريُّ عن فطر بن خَليفة، عن الشَّعْبي، قال: غُشِي على مسروق في يوم صائِف، وكانتْ عائشة قد تبنتْه، فسَمَّى بِنْتَه عائشة، وكان لا يَعْصي ابنتَه شيئًا، قال: فنزلتْ إليه، فقالت: يا أبتاه، أفْطِر واشربْ، قال: ما أردتِ بي يا بُنَيَّة؟ قالت: الرِّفْق، قال: يا بنية، إنَّما طلبتُ الرفق لنفسي في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سَنَة؛ "السير" (4/ 67، 68).
قال الشعبيُّ: عن مسروق، قالتْ عائشة: يا مسروقُ، إنَّك مِن ولدي، وإنَّك لَمِنْ أحبِّهم إلي، فهل لك علمٌ بالمُخْدَج؛ "السير" (4/ 66).
أخَذ عنها علمًا وعبادةً، وتقوى وورعًا، وخوفًا من الله - عزَّ وجلَّ.
كان حريصًا على طلب العلم، حتى قال فيه الشعبيُّ: "ما علمتُ أنَّ أحدًا كان أطلبَ للعِلم في أُفق من الآفاق مِن مسروق"؛ "السير" (4/ 65).
¥