8 - ونادَى منادٍ لعلي: "لا يُقْتَل مُدْبر، ولا يُذَفف على جريح، ومَن أغلقَ باب داره فهو آمِن، ومَن طرَحَ السلاح فهو آمِن"، وأمَرَ علي بجمْعِ ما وجَدَ لأصحاب عائشة - رضي الله عنها - في العسكر، وأنْ يُحْملَ إلى مسجد البصرة، فمَن عَرَف شيئًا هو لأهْلهم، فليَأْخذه.
فهذا - وغيره - يدلُّ على فضْل هؤلاء الصحابة الأخيَار، ونُبلِهم واجتهادهم في طلب الحقِّ، وسلامة صدورِهم من الغِلِّ والحِقْد والهوى، فرَضِي الله عنهم أجمعين.
فعائشة - رضي الله عنه - ما خرجتْ إلاَّ للإصلاح بين الناس، وأنْ يراها الناس، فيكفُّوا عن القتال.
وأما وقوع عائشة - رضي الله عنها - في السَّبْي في هذه الموقِعة، فلم يحدثْ؛ فقد كان مما أخَذَ الخوارج على عَلِي - رضي الله عنه - أنَّه قاتَلَ ولم يأْخُذ السَّبْي أو الغنائم، فقد ذَكَر أهْلُ السِّيَر والتاريخ - في المناظرة التي جرتْ بين ابن عباس - رضي الله عنهما - والخوارج - أنَّهم قالوا عن عليٍّ - رضي الله عنه -: إنَّه قاتَلَ ولم يَسبِ ولم يَغْنم، فإنْ حلَّتْ له دماؤهم، فقد حلَّتْ له أموالُهم، وإنْ حَرُمتْ عليه أموالهُم، فقد حَرُمَتْ عليه دماؤهم، فقال لهم ابن عباس - رضي الله عنهما -: أفتَسْبون أُمَّكم؟ يَعني عائشة - رضي الله عنها - أم تستحلُّون منها ما تستحلُّون مِن غيرها؟! فإنْ قلتُم: ليستْ أُمَّكم فقد كفرْتُم، وإنْ قلتُم: إنَّها أُمُّكم واستحلَلْتُم سَبْيَها، فقد كفرْتُم، إلى آخر ما ورَدَ في هذه المناظرة.
المطعن الرابع: قول الراوفض - قبَّحهم الله - أنَّها - أي: عائشة - أذاعتْ سِرَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال لها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّك تقاتلين عَلِيًّا وأنتِ ظالمة له، ثم إنَّها خالفتْ أمرَ الله في قوله - تعالى -: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ? [الأحزاب: 33]، وخرجتْ في ملأ الناس؛ لتقاتِلَ عَليًّا على غير ذنبٍ؛ لأنَّ المسلمين أجمعوا على قتْل عثمان، وكانتْ هي في كلِّ وقتٍ تأمُرُ بقتْلِه، وتقول: اقتلوا نعثلًا، قتَلَ الله نعثلًا، ولما بلَغَها قتْلُه، فَرِحتْ بذلك، ثم سألتْ: مَن تولَّى الخلافة؟ فقالوا: عَلِي، فخرجَتْ لقتاله على دمِ عثمان، فأيُّ ذنبٍ كان لعليّ على ذلك؟!
الجواب:
يقول شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: أمَّا أهل السُّنَّة، فإنَّهم في هذا الباب وغيره قائمون بالقِسْط شهداءُ لله، وقولُهم حقٌّ وعَدْلٌ لا يَتناقض، وأمَّا الرافضة وغيرُهم من أهْل البِدَع، أهْلُ كَذب وافتراءاتٍ وضلال.
وإذا كان هذا أصْلُهم، فنقول: إنَّ ما يُذكَرُ عن الصحابة من السيِّئات كثيرٌ منه كَذب، وكثيرٌ منه كانوا مجتهدين فيه، ولكنْ لم يعرفْ كثيرٌ من الناس وجْه اجتهادِهم، وما قُدِّر أنَّه كان فيه ذنبٌ من الذنوب لهم، فهو مغفور لهم؛ إمَّا بتوبة، وإمَّا بحسنات ماحِية، وإمَّا بمصائب مُكَفِّرة، وإمَّا بغير ذلك، فإنَّه قد قامَ الدليلُ الذي يجبُ القول بموجبه أنَّهم مِن أهْل الجنة، فامتنعَ أنْ يفعلوا ما يُوجبُ النارَ لا محالةَ، وإذا لم يمتْ أحدٌ منهم على موجبِ النار، لم يقدحْ ما سوى ذلك في استحقاقهم للجنة.
أما قوله: "وأذاعتْ سِرَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"، فلا ريبَ أنَّ الله - تعالى - يقول: ?وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ? [التحريم: 3]، وقد ثبتَ في الصحيح عن عُمر أنَّهما عائشة وحَفْصة.
فيُقال أولًا: هؤلاء يَعمدون إلى نصوص القرآن التي فيها ذِكْر ذنوبٍ ومعاصٍ بيِّنة لِمَن نصَّتْ عنه من المتقدِّمين يتأوَّلون النصوصَ بأنواع التأويلات، وأهْل السُّنة يقولون: بل أصحاب الذنوب تابوا منها، ورفعَ الله درجاتهم بالتوبة.
وهذه الآية ليستْ بأَوْلى في دَلالتها على الذنوب من تلك الآيات، فإنْ كان تأويل تلك سائغًا، كان تأويل هذه كذلك، وإنْ كان تأويلُ هذه باطلًا، فتأويل تلك أبْطل.
¥