تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويُقال ثانيًا: بتقدير أنْ يكونَ هناك ذنبٌ لعائشة وحَفْصة، فيكونان قد تابتا منه، وهذا ظاهرٌ؛ لقوله - تعالى -: ?إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا? [التحريم: 4].

فدعاهما الله - تعالى - إلى التوبة، فلا يُظنُّ بهما أنَّهما لم يتوبا، مع ما ثبتَ من عُلوِّ درجتهما، وأنَّهما زوْجتا نبيِّنا في الجنة، وأنَّ الله خيَّرهُنَّ بين الحياة الدنيا وزينتها، وبين الله ورسوله والدارِ الآخرة، فاخْتَرْنَ الله ورسولَه والدارَ الآخرة؛ ولذلك حرَّم الله عليه أنْ يتبدَّلَ بهنَّ غيرهُنَّ، وحرَّم عليه أن يتزوَّج عليهنَّ، واختُلِفَ في إباحة ذلك له بعد ذلك، وماتَ عنهنَّ وهُنَّ أُمَّهات المؤمنين بنصِّ القرآن، ثم قد تقدَّمَ أنَّ الذنبَ يُغفر ويُعفى عنه؛ بالتوبة، وبالحسنات الماحية، وبالمصائب المكَفِّرة.

ويُقال ثالثًا: المذكورُ عن أزواجه كالمذكور عمَّن شَهِد له بالجنة من أهْل بيته وغيرهم من الصحابة، فإن عَليًّا لما خَطَبَ ابنة أبي جهْل عَلى فاطمة، وقامَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطيبًا، فقال: ((إنَّ بَنِي المغيرة استأذنوني أن يُنكِحوا عَلِيًّا ابنتهم، وإني لا آذنُ ثم لا آذنُ ثم لا آذن، إلاَّ أنْ يريدَ ابن أبي طالب أن يُطَلِّق ابنتي ويتزوَّج ابنتهم، إنما فاطمة بِضْعَةٌ منِّي يُريبُني ما أرابَها، ويُؤذيني ما آذاها))؛ رواه البخاري، (4829).

فلا يُظنُّ بعليٍّ - رضي الله عنه - أنه ترَكَ الخِطبة في الظاهر فقط، بل ترَكَها بقلبه وتابَ بقلبه عمَّا كان طلبَه وسَعَى فيه.

وأمَّا الحديث الذي رواه وهو قوله لها: (تُقاتلين عَلِيًّا وأنتِ ظالمة له)، فهذا لا يُعرف في شيءٍ من كتب العلم المعتمدَة، وليس له إسنادٌ معروف، وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة، بل هو كَذبٌ قَطعًا؛ فإنَّ عائشة لم تُقاتِلْ ولم تخرجْ لقتالٍ، وإنما خرجتْ لقصدِ الإصلاح بين المسلمين، وظنَّتْ أنَّ في خروجِها مصلحة للمسلمين، ثم تبيَّنَ لها فيما بعد أنَّ ترْكَ الخروج كان أَوْلَى، فكانتْ إذا ذَكَرتْ خروجَها، تَبكي حتى تَبُلَّ خِمارَها.

وهكذا عامَّة السابقين نَدِموا على ما دخلوا فيه من القتال، فنَدِم طلحةُ والزبير وعَلِيّ - رضي الله عنهم أجمعين - ولم يكنْ يومَ "الجَمَل" لهؤلاء قصْدٌ في الاقتتال، ولكنْ وقَعَ الاقْتتال بغير اختيارهم؛ فإنَّه لَمَّا تراسَلَ عليّ وطلحة والزبير، وقصدُوا الاتفاقَ على المصلحة، وأنهم إذا تمكَّنوا طلَبُوا قَتَلَة عثمان أهْل الفتنة، وكان عليّ غيرَ راضٍ بقتْل عثمان ولا مُعينًا عليه، كما كان يحلفُ، فيقول: والله ما قتلتُ عثمان، ولا مالأْتُ على قتْلِه، وهو الصادق البارُّ في يَمينه، فخَشِي القَتَلَة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير، فظنَّ طلحة والزبير أنَّ عَلِيًّا حمَلَ عليهم، فحملوا دِفاعًا عن أنفسهم، فظنَّ عليّ أنَّهم حملوا عليه، فحمَلَ دِفاعًا عن نفسه، فوقعتِ الفتنة بغير اختيارهم، وعائشة - رضي الله عنها - راكبة؛ لا قاتلتْ، ولا أمرتْ بقتالٍ، هكذا ذَكَره غيرُ واحدٍ من أهْل المعرفة بالأخبار.

وأمَّا قولُه: "وخالفتْ أمرَ الله في قوله - تعالى -: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى? [الأحزاب: 33]، فهي - رضي الله عنها - لم تتبرَّجْ تبرُّجَ الجاهلية الأولى، والأمرُ بالقَرار في البيوت لا يُنافي الخروج لمصلحة مأمورٍ بها، كما لو خرجتْ للحج والعُمرة، أو خرجتْ مع زوجها في سَفْرَة، فإنَّ هذه الآية قد نزلتْ في حياة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد سافَرَ بهنَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد ذلك، كما سافرَ في حَجة الوداع بعائشة - رضي الله عنها - وغيرها، وأرْسَلَها مع عبدالرحمن أخيها، فأرْدَفَها خَلْفَه، وأعمرها من التنعيم، وحَجة الوداع كانتْ قبل وفاة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأقلِّ من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواجُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَحْجُجْنَ - كما كنَّ يَحْجُجْنَ معه - في خِلافة عُمر - رضي الله عنه - وغيره، وكان عُمر يُوكِّلُ بقطارهنَّ عثمان أو عبدالرحمن بن عوف، وإذا كان سَفَرُهنَّ لمصلحة جائزًا، فعائشة اعتقدتْ أنَّ ذلك السفر مصلحةً للمسلمين، فتأوَّلتْ في ذلك.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير