وهذه طريقة مَرَدة الجِنِّ مِن مُسترقي السمع، وأوليائهم من شياطين الإنس، يجعلون مع الكلمة الصادقة مائةَ كذبة؛ فقصة موت الحسن بن علي واستئذان أخيه الحسين من عائشة بأنْ يُدْفَنَ عند جَدِّه ثابتة في كُتب السُّنَّة، أما ممانعة الصِّدِّيقة، وركوبها على بغْلٍ، وخروجها إلى الناس، فكل ذلك من التُّرَّهات والأكاذيب، فلم تكنْ أُمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تمانِعُ من دَفْن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - عند جَدِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل لقد وافقَتْ على ذلك، وقالتْ لأخيه الحسين - رضي الله عنه - لَمَّا استأذَنَها في دَفْن الحسن: "نَعَم، وكَرامة عين"؛ كما روى ذلك ابنُ عبدالبر من طُرق مُتعددة؛ انظر: "الاستعاب"، (1/ 376 - 378)، "سِيَر أعلام النبلاء"؛ للذهبي، (3/ 275 - 279).
ولكنَّ الذي منَعَ من دَفْنِ الحسن عند جَدِّه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو مروان بن الحَكَم الذي أقبَلَ لَمَّا بلَغَه ذلك، وقال: "كذب، كذبتَ، والله لا يُدْفَن هناك أبدًا، منعوا عثمان مِن دَفْنه بالمقبرة، ويريدون دَفْن الحسن في بيت عائشة؟! "؛ انظر: "الصاعقة في نسْفِ أباطيل وافتراءات الشيعة على أُمِّ المؤمنين عائشة"، ص (141 - 142).
المطعن التاسع: ادِّعاء الشيعة أنَّ عائشة - رضي الله عنها - هي أوَّل مَن رَكِب السروج.
الجواب:
هذا كذبٌ أصْلَعُ وله قَرنان، ورغم كذب هذه الدعوى من أصْلها، فإنه يوجَدُ ما يَنْقضُها في كتب القوم أنفسِهم؛ فقد رَوَوا أنَّ فاطمة - رضي الله عنها - رَكِبتْ بغلةً يومَ عُرْسها، وانظر: "كشف الغُمَّة"، للإربلي، (1/ 368).
وأنَّ عليًّا أرْكَبَها على حمارٍ ودارَ بها على بيوت المهاجرين والأنصار يدعوهم إلى نُصْرته لَمَّا بُويع لأبي بكر بالخلافة على حدِّ زعمهم؛ انظر: "السقيفة"؛ لسليم بن قيس، ص (81)، و"الاحتجاج"؛ للطبرسي، ص (81 - 82)، و"الصاعقة في نسْفِ أباطيل وافتراءات الشيعة"، ص (144).
المطعن العاشر: ادِّعاء الشيعة أنَّ عائشة لم تَتُبْ من مُعاداتها لعَلِي - رضي الله عنه - وحربِها له، وبكائها بعد المعركة لم يكنْ دليلًا على الندم، بل لأنها فَشِلتْ في المعركة، ولم تحقِّقْ مأربَها في النَّيْل مِن عَلِيّ والانتقامِ منه.
الجواب:
لقد تقدَّم أنَّ أُمَّ المؤمنين – رضي الله عنها - ومَن خَرَجَ إلى البصرة لم يكنْ مُرادُهم قتالَ عَلِي، وإلاَّ لكانتْ وِجْهتُهم المدينة بدلًا من البصرة، بل كان مرادُهم الإصلاح، والطلبُ بدمِ عثمان - رضي الله عنه - وكانتْ عائشة تَرى أنَّ في خروجِها مصلحةً للمسلمين، ثم تبيَّنَ لها فيما بعد أنَّ ترْكَ الخروج كان أَوْلَى، فكانتْ إذا ذكَرَتْ خروجَها تبكي؛ حتى تبُلَّ خمارَها، وتقول: والله لوَدِدْتُ أنْ مِتُّ قبلَ هذا اليوم بعشرين سنة"؛ انظر: "الطبقات"، (8/ 18)، و"السِّيَر"، (2/ 177)، و"منهاج السُّنة"، (4/ 316).
وكانتْ - رضي الله عنها - تتذكَّرُ أحداثَ "الجَمَل" وتبكي؛ فقد أخرَجَ الطبري عن عبدالرحمن بن جُنْدَب عن أبيه عن جَدِّه: "كان عمرو بن الأشرف قد أخَذَ بخُطام الجَمَل، لا يدنو منه أحدٌ إلا خبطه بسيفه، إذا أقْبَلَ الحارث بن زهير الأزدي وهو يقول يَعني (عمرو بن الأشرف):
يَا أُمَّنَا يَا خَيْرَ أُمٍّ نَعْلَمُ
أَمَا تَرَيْنَ كَمْ شُجَاعٍ يُكْلَمُ
وَتُخْتَلَى هَامَتُهُ وَالْمِعْصَمُ
فاختلفا ضرْبتين، فرأيتهما يفْحَصان الأرض بأرْجُلهما حتى ماتا، فدخلتُ على عائشة - رضي الله عنها - بالمدينة، فقالتْ: مَن أنت؟ قلتُ: رجلٌ من الأزد، أسْكُن الكوفة، قالتْ: أشَهِدْتَنا يومَ الجَمَل؟ قلتُ: نعم، قالتْ: ألَنَا أم عَلينا؟! قلتُ: بل عليكم؟ قالتْ: أتعرفُ الذي يقول:
يَا أُمَّنَا يَا خَيْرَ أُمٍّ نَعْلَمُ
قلتُ: نعم! ذاك ابنُ عمِّي، فبكتْ؛ حتى ظننْتُ أنَّها لا تَسْكُت؛ "تاريخ الطبري"، (5/ 211).
ومثلُ عائشة في اجتهادِها مثل عَلِي حين ترَكَ المدينة، وجعَلَ عاصمة خلافته الكوفة، ولم يقمْ فيها كما أقامَ الرسول والخلفاء مِن بعده، ولم يتركْ علي المدينة رغبةً عنها، بل اجتهدَ وأخطأ.
وإذا عَلِم هذا تبيَّنَ أنَّ عائشة كانتْ تبكي على ترْكِها الأَوْلَى، وعلى خطئِها المغفور لها في اجتهادها، لا على الهزيمة وفَوتِ النصر على عَلِي، كما زعَمَ الروافضُ.
¥