فرواية مسلم هذه التي تنص على اعتزال الصلاة تبين المراد من الرواية الأخرى، ولا شك أن الحائض ممنوعة من الصلاة بالإجماع فيكون ذلك إخباراً عن واقع معروف، ويمكن حمل رواية فيعتزلن المصلى هنا على رواية فيعتزلن الصلاة وبهذا يرتفع الإشكال، والمصلى ليس كالمسجد في الأحكام من تحية المسجد للداخل أو إقامة الحدود أو البيع والشراء وغيرها.
قال ابن رجب: الأظهر أن أمر الحيض باعتزال المصلى إنما هو حال الصلاة ليتسع للنساء الطاهرات مكان صلاتهن ثم يختلطن بهن في سماع الخطبة، وقد صرح أصحابنا بأن مصلى العيد ليس حكمه حكم المسجد ولا في يوم العيد حتى قالوا لو وصل إلى المصلى يوم العيد والإمام يخطب بعد الصلاة فإنه يجلس من غير صلاة لأنه لا تحية له " ().
قال ابن دقيق العيد: اعتزال الحيض للمصلي ليس لتحريم حضورهن فيه إذا لم يكن مسجدا بل إما مبالغة في التنزيه لمحل العبادة في وقتها على سبيل الاستحسان أو لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد في حال إقامة الصلاة كَمَا جَاءَ " مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ أَلَسْت بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ " ().
قال ابن الملقن في شرحه لعمدة الأحكام: " أُمر الحيّض باعتزال مصلى المسلمين ليس للتحريم، بل إما مبالغة في التنزيه لمحل العبادة، أو لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد في حال إقامة الصلاة، أو هو للاحتراز وصيانتهن من مقاربة الرجال من غير حاجة ولا صلاة" ().
قال الشوكاني: فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين والأمر بالخروج يقتضي الأمر بالصلاة لمن لا عذر لها بفحوى الخطاب والرجال بذلك أولى من النساء " ().
قال العيني: الأمر بالاعتزال إما لئلا يلزم الاختلاف بين الناس من صلاة بعضهم وترك الصلاة لبعضهم أو لئلا تنجس المواضع أو لئلا تؤذي جارتها إن حصل أذى منها ()
قال النووي: واختلف أصحابنا في هذا المنع فقال الجمهور: هو منع تنزيه لا تحريم وسببه الصيانة والاحتراز من مقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة وإنما لم يحرم لأنه ليس مسجداً وحكى أبو الفرج الدارمي من أصحابنا عن بعض أصحابنا أنه قال يحرم المكث في المصلى على الحائض كما يحرم مكثها في المسجد لأنه موضع للصلاة فأشبه المسجد والصواب الأول ().
قال الحافظ ابن حجر: وحمل الجمهور الأمر المذكور على الندب لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الِحيضُ من دخوله، وأغرب الكرماني فقال: الاعتزال واجب والخروج والشهود مندوب مع كونه نقل عن النووي تصويب عدم وجوبه وقال بن المنير: الحكمة في اعتزالهن أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار استهانة بالحال فاستحب لهن اجتناب ذلك ().
وقال النووي: في الكلام على قوله ? إن حيضتك ليست في يدك معناه: أن النجاسة التي يصان المسجد عنها هي الدم فقط ().
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فهي أدلة صحيحة، والبراءة الأصلية قاضية بالجواز مطلقاً، إذ الأصل عدم منع المسلم من دخول المسجد إلا أن يترتب على دخوله مفسدة من تلويث المسجد أو آذية لمن كان بالمسجد كآكل الثوم أو البصل كما جاء بذلك النص أنه يجتنب المسجد.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثالث فليس فيه شيء مرفوع إلى النبي ?، وكونهم كانوا يتوضئون تخفيفاً للجنابة هذا لا يدل على منع الجنب الذي لم يتوضأ من المسجد، بل يحمل ذلك على الاستحباب والفضيلة، مثل وضوء الجنب إذا أراد النوم، فعن عمر بن الخطاب ? أنه سأل النبي ? فقال: أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب ().
قال النووي: قوله ? إن حيضتك ليست في يدك معناه: أن النجاسة التي يصان المسجد عنها هي الدم فقط ().
وقد سبق كلام الشوكاني: على حديث ناوليني الخمر من المسجد أنه يدل على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة ولكنه يتوقف على تعلق الجار والمجرور أعني قوله من المسجد بقوله ناوليني وقد قال بذلك طائفة من العلماء واستدلوا به على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة تعرض لها إذا لم يكن على جسدها نجاسة وأنها لا تمنع من المسجد إلا مخافة ما يكون منها ().
¥