تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أغراضه، لكنه حين يتزيَّن بهذه "اللافتات" يضع لها من الضوابط والقيود ما يجعلها قاصرة عليه، فلا يسمح لأحدٍ غيره باستخدام تلك اللافتات لنصرة حقٍّ أو إبطال باطلٍ؛ إلَّا فيما يُمَكّنه هو مِن أداء دوره والوصول لأهدافه، فالحرية الشخصية مقصورة على أصحاب "اللافتات" المزيفة، وحقوق الإنسان عندهم وحدهم؛ ولذا تراهم ينعون كلبًا أو قطة ماتت عندهم، بينما لا يكترث هؤلاء لعشرات الأرواح المسلمة البريئة.

وينسى هؤلاء جميع خلافاتهم ويتحدون في وجه امرأة منتقبةٍ هنا أو هناك، نظرًا لما يثيره نقابها في نفوسهم مِن زلازل عميقة لاتصال الأمر بالهوية، ولذا يتحدثون عن الهوية بجوار حديثهم عن النقاب ومحاربتهم له، ويجمعون بين الأمرين في كثيرٍ من أحاديثهم بعبارة أو بأخرى.

وقد كان الشيخ علي محفوظ رحمه الله مُلْهَمًا عندما قال (26): "ومن العادات المحرمة: تقليد الأجانب في الملابس والأزياء حتى انتشر ذلك في النساء والأطفال، فإذا وقع بصرك على امرأة أو ابنة مثلًا رأيتها إفرنجية في كل شيء وهي زوجة أو ابنة مَن يَعُدُّ نفسه من جماعة المسلمين، وهذا ضلالٌ يفضي بالأمة إلى تلاشي قوميتها وعاداتها و شعارها حتى تندمج في غيرها" إلى آخر كلامه الذي يدلّ على العلاقة الوثيقة بين قضية الثياب والمظهر وبين قضية الدين والهوية الإسلامية لهذه الأمة.

ومما يؤكد هذا أَنَّ المسألة في عيون المعارضين للنقاب لا تقف عند منعه أو تشويه صورته، وإنما تتجاوز ذلك إلى منع كل أشكال الاحتشام أو تغطية الرأس بأي غطاء كان؛ والإلحاح الواضح على نشر كل ألوان التبرُّج وتوابعه من انفلاتٍ أخلاقيٍّ، فيصبح الناس وقد صارت المتبرِّجة نجمة مشهورة، في حين يتم التنفير من الطبيبة والباحثة والأستاذة الفاضلة لمجرد كونها ممن يرتدين النقاب، فالمسألة هنا تتجاوز حدَّ الخلاف الفقهي في حكم النقاب لدى علماء المسلمين، لتصبح دعوات منظمة ومتكررة إلى الانفلات، ثم يحاربون النقاب مِن جهةٍ لضمان نجاح سعيهم إلى الانفلات دون عوائق، ومِن جهةٍ ثانية: حتى ينغمس الجميع فيما هم فيه فيستوي الجميع في الفساد، فلا يفضلهم أحد، حسدًا مِن عند أنفسهم.

وأيضًا ممَّا يؤكد وقوف قضية الهوية وراء هذه التصرُّفات كلها: إصرار المخالف على تشويه صور بعض المشاهير ممن ارتدَيْنَ النقاب ودافَعْنَ عنه ودَعَوْن إليه؛ بخلاف عشرات المنتقبات غير المشهورات؛ واللاتي لا يُؤَثِّرْن في توجُّه الناس أو لفت انتباههم إلى النقاب والفضيلة، وهذا التمييز في التصرُّف تجاه المشهورة وغير المشهورة يؤكِّد أيضًا صلة النقاب بقضية التميُّز والهوية، وأن المسألة ليست خلافًا مع عبادة خفية، أو سلوكٍ شخصيٍّ؛ وإنما خلافهم مع المظهر الإسلامي المُمَيِّز للهوية الإسلامية، مهما تنوَّعَتْ أغراضهم ودوافعهم.

وهذا يُعطي قضية النقاب بُعْدًا آخر ينبغي أن لا يغيب عن أذهان المعالجين لقضيته؛ لأن الذي سيبدأ بالتنازل اليوم عن واجب أو مستحبٍّ؛ سيتنازل غدا عن معلومٍ مِن الدين بالضرورة؛ لأن معارضة النقاب إنما هي مظهرٌ ومقدِّمة لمعارضة الهوية الإسلامية كلها، ولن تقف المسألة عند النقاب؛ لأنها ليست خلافًا مع النقاب؛ وإنما هي خلاف مع الإسلام بكل شعائره وأشكاله.

وقد كان خلافهم قبل فترة قصيرةٍ مع اللحية أيضًا ثم هدأ الخلاف كثيرًا بعدما انتشرت اللحية في الأمم الأخرى بشكلٍ أو بآخر، وصار شكلها مألوفًا غير مختصٍّ بالمسلمين في نظر هؤلاء المعارضين، فهدأ الخلاف مع اللحية مقارنةً بما كان عليه سابقًا، وبقي الخلاف مع النقاب المختصّ بالمسلمين مستمرًّا، كما ثار الخلاف أيضًا مع الحجارة والجدران، عندما تشير هذه الحجارة إلى شيءٍ من شعائر الإسلام، فالخلاف ليس مع الطوب والجدران وإنما هو خلافٌ مع ما تشير إليه هذه الحجارة من المساجد في طول أوروبا وعرضها، أو مع المآذن كما حصل مؤخَّرًا في سويسرا التي أجرت الاستفتاء على حظر المآذن، ثم خطى بعض وزراء إيطاليا خطوة أخرى فقال بضرورة إجراء استفتاء استشاري قبل المضي في بناء المزيد مِن المساجد (27)، فانتقلت المسألة للمساجد بعدما كانت في المآذن، والحجارة هي الحجارة، تُبْنى بها الملاهي فلا تثور لهم ثائرة، فإذا بُنِيَتْ بها المآذن والمساجد ثارت الدنيا؛ لما تشير إليه حينئذٍ من الهوية الإسلامية.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير