الصبر، والشكر، ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وعمود العالم، وخليل رب العالمين من بني آدم، وتأمل ما آلت إليه محنته، وصبره، وبذله نفسه لله، وتأمل كيف آل به بذله لله نفسه، ونصره دينه إلى أن اتخذه الله خليلاً لنفسه ... وضاعف الله له النسل، وبارك فيه، وكثر، حتى ملؤوا الدنيا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته خاصة، وأخرج منهم محمَّداً صلى الله عليه وسلم وأمَره أن يتبع ملة أبيه إبراهيم ... .
فإذا جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتأملت سيرتَه مع قومه، وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله، وتلون الأحوال عليه، مِن سِلْم وخوف، وغنى وفقر، وأمن وإقامة، في وطنه وظعن عنه، وتركه لله، وقتل أحبابه، وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى، من القول، والفعل، والسحر، والكذب، والافتراء عليه، والبهتان، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله، يدعو إلى الله، فلم يُؤْذَ نبي ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يُعْطَ نبي ما أعطيه، فرفع الله له ذِكره، وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلهم، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهاً، وأسمعهم عنده شفاعة، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفاً، وفضلاً، وساقه بها إلى أعلى المقامات، وهذا حال ورثته من بعده، الأمثل، فالأمثل، كلٌّ له نصيب من المحنة، يسوقه الله به إلى كماله بحسب متابعته له.
" مفتاح دار السعادة " (1/ 299 – 301).
2. والمسلم جنته في صدره , ولو كان مكبَّلا بأصناف البلاء , قال ابن القيم - يصف حال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتنقل في أصناف من البلاء والاختبار -:
قال لي مرة - يعني: شيخ الإسلام -: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، إنّ حبْسي خلوة، وقتْلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة ". وكان يقول في محبسه في القلعة: " لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة "، أو قال: " ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير "، ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: " اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله، وقال لي مرة: " المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه "، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) الحديد/13، وعلم الله ما رأيتُ أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع كل ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوةً، ويقيناً، وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها، ونسيمها، وطيبها، ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
" الوابل الصيب " (ص 110).
فهذه الجنة التي وجدها شيخ الإسلام، ويجدها أهل الإيمان والتقوى، من انشراح الصدر، والبال ومن الطمأنينة , والعيش بين الشكر والصبر: لهي والله السعادة التي ينشدها العقلاء، ويطلبها الصالحون، ويسعى إليها الساعون.
وهذه والله هي حقيقة الحياة الطيبة التي وعدهم الله إياها في الدنيا.
رزقنا الله وإياكم إياها , وجعلنا من أهلها.
وانظر في فوائد ابتلاء المؤمن جواب السؤال رقم: (12099).
والله أعلم
المصدر /
http://www.islamqa.com/ar/ref/135711 (http://www.islamqa.com/ar/ref/135711)