(اللهُ لطيفٌ بعباده)
ـ[محمود المقدسي]ــــــــ[25 - 10 - 10, 01:47 م]ـ
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر:
تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق، فحاسبتها قبل أن تحاسب، و وزنتها قبل أن توزن، فرأيت اللطف الرباني، فمنذ الطفولة وإلى الآن أرى لطفاً بعد لطف، وستراً على قبيح، و عفواً عمّا يوجب عقوبة.
وما أرى لذلك شكراً إلا باللسان.
ولقد تفكرت في خطايا، لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً، ولو كشف للناس بعضها لاستحييت.
ولا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب، حتى يظن فيَّ ما يظن في الفساق.
بل هي ذنوب وقعت بتأويلات فاسدة.
فصرت إذ دعوت أقول: اللهم بحمدك وسترك علي، اغفر لي.
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك، فما وجدته كما ينبغي.
ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي، ولا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه، ولا بشكر على نعمة.
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المُنعم، وكوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به.
و قد كنت أرجو مقامات الكبار، فذهب العمر وما حصل المقصود.
فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما نُحت، فأعجبتني نياحته، فكتبتها ههنا.
قال لنفسه:
يا رعناء تقوِّمين الألفاظ ليقال مناظر، وثمرة هذا أن يقال: يا مناظر.
ضيّعت أعزّ الأشياء وأنفسها عند العقلاء، وهي أيام العمر، حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر.
ثم يُنسى الذاكر والمذكور إذا درست القلوب.
هذا إن تأخر الأمر إلى موتك، بل ربما نشأ شاب أفره منك، فموهوا له، وصار الاسم له.
والعقلاء عن الله تشاغلوا بما ـ إذا انطووا ـ نشرهم، وهو العمل بالعلم، و النظر الخالص لنفوسهم.
أفٍ لنفسي، وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم، و ما عبق بها فضيلة.
إن نوظرت شمخت، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم، وسقطت عليها الغراب على الجيف.
فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.
توفر في المخالطة عيوباً تبلي ولا تحتشم نظر الحق إليها.
و إن انكسر لها غرض تضجرت، فإن أمدت لك بالنعم اشتغلت عن المنعم.
أفٍ والله مني اليوم على وجه الأرض و غداً تحتها.
والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي و أنا
بين الأصحاب.
والله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف يسترني و أنا أتهتك، و يجمعني وأنا أتشتت.
وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو عرفوني حتى معرفتي بنفسي ما دفنوني.
والله لأنادين على نفسي نداء المكشفين معائب الأعداء.
ولأنوحن نوح الثاكلين للأبناء إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المتكومة، والخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها، و غطاها من علمها.
والله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها: اللهم اغفر لي كذا بكذا.
والله ما ألتفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني، ووقاية تحميني، مع تسلط الأعداء.
ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها. هذا فعله معي، و هو رب غني عني، وهذا فعلي وأنا عبد فقير إليه.
ولا عذر لي فأقول: ما دريت أو سهوت.
والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً، و نور قلبي بالفطنة، حتى أن الغائبات و لمكتومات تنكشف لفهمي.
فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضى.
وا حرماني لمقامات الرجال الفطناء. يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، وشماتة العدو بي.
وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي.
وا خذلاني عند إقامة الحجة، سخر والله مني الشيطان وأنا الفطن.
اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، و نهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار.
وقد جئتك بعد الخمسين وأنا من خلق المتاع.
وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، و ليس لي وسيلة إلا التأسف و الندم.
فوالله ما عصيتك جاهلاً بمقادر نعمك، ولا ناسياً لما أسلفت من كرمك، فاغفر لي سالف فعلي.