والآن بعد أن فقهت المغزى لعلك عرفت لماذا لم يعش عمر بن عبد العزيز ( http://www.ahlalhdeeth.com/ عمر_بن_عبد_العزيز_الخلافة_الأموية) إلا سنتين ونصف فقط في تمكينه، وأدركت لماذا قُتل عماد الدين زنكي بعد أقل من عامين من فتح الرُّها، وكذلك لماذا قُتل قطز ( http://www.ahlalhdeeth.com/ حياة-سيف-الدين-قطز) بعد أقل من سنة من نصره الخالد على التتار ( http://www.islamstory.com/index.php?option=com_*******&Itemid=85&id=101&lang=ar&layout=default&view=category) في عين جالوت ( http://www.ahlalhdeeth.com/ معركة_عين_جالوت)، وكذلك لماذا قُتل ألب أرسلان بعد أقل من عامين من انتصار ملاذكرد التاريخي، ولماذا لم "يستمتع" صلاح الدين بثمرة انتصاره في حطين إلا أقل من سنة ثم سقطت عكا مرة أخرى في يد الصليبيين، ولماذا لم يرَ عبد الله بن ياسين ( http://www.ahlalhdeeth.com/ المجاهد_عبد_الله_بن_ياسين) مؤسس دولة المرابطين التمكين أصلاً، ولماذا مات خير رجال دولة الموحدين ( http://www.ahlalhdeeth.com/ دولة_الموحدين) أبو يعقوب يوسف المنصور بعد أقل من أربع سنوات من نصره الباهر في موقعة الأرك.
إن هذه مشاهدات لا حصر لها، كلها تشير إلى أن الله أراد لهؤلاء "العابدين" أن يختموا حياتهم وهم في أعلى صور العبادة، قبل أن تتلوث عبادتهم بالدنيا، وقبل أن يصابوا بأمراض التمكين.
إنهم كانوا "يعبدون" الله حقًّا في زمن الإعداد والشدة، "فكافأهم" ربُّنا بالرحيل عن الدنيا قبل الفتنة بزينتها ..
ولا بد أن سائلاً سيسأل: أليس في التاريخ ملك صالح عاش طويلاً ولم يُفتن؟! أقول لك: نعم، هناك من عاش هذه التجربة، ولكنهم قليلون أكاد أحصيهم لندرتهم! فلا نجد في معشر الأنبياء إلا داود وسليمان عليهما السلام، وأما يوسف -عليه السلام- فقصته دامية مؤلمة من أوَّلها إلى قبيل آخرها، ولا نعلم عن تمكينه إلا قليل القليل.
وأما الزعماء والملوك والقادة فلعلك لا تجد منهم إلا حفنة لا تتجاوز أصابع اليدين، كهارون الرشيد ( http://www.ahlalhdeeth.com/ خلافة-هارون-الرشيد) وعبد الرحمن الناصر ( http://www.ahlalhdeeth.com/ عبد_الرحمن_بن_محمد_الناصر_لدين_الله) وملكشاه وقلة معهم ..
لذلك يبقى هذا استثناءً لا يكسر القاعدة، وقد ذكر ذلك الله U في كتابه فقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] .. فالذي يصبر على هذه الفتن قليل بنص القرآن، بل إن الله U إذا أراد أن يُهلك أمة من الأمم زاد في تمكينها!! قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
http://www.ahlalhdeeth.com/images/stories/articles/41/16979_image005.jpg إنني بعد أن فهمت هذا المغزى أدركت التفسير الحقيقي لكثيرٍ من المواقف المذهلة في التاريخ .. أدركت لماذا كان عتبة بن غزوان ( http://www.ahlalhdeeth.com/ عتبة_بن_غزوان_المازني) t يُقْسِم على عمر بن الخطاب ( http://www.ahlalhdeeth.com/ عمر_بن_الخطاب_في_ميزان_الإسلام) t أن يعفيه من ولاية البصرة! وأدركت لماذا أنفق الصديق t ماله كله في سبيل الله، وأدركت لماذا حمل عثمان بن عفان ( http://www.ahlalhdeeth.com/ عثمان_بن_عفان) t وحده همَّ تجهيز جيش العسرة دون أن يطلب من الآخرين حمل مسئولياتهم، وأدركت لماذا تنازل خالد بن الوليد ( http://www.ahlalhdeeth.com/ خالد_بن_الوليد) t عن إمارة جيش منتصر، وأدركت لماذا لم يسعد أبو عبيدة بن الجراح ( http://www.ahlalhdeeth.com/ أمين_الأمة_أبو_عبيدة_بن_الجراح) t بولايته على إقليم ضخم كالشام، وأدركت لماذا حزن طلحة بن عبيد الله ( http://www.ahlalhdeeth.com/ الصحابي_طلحة_بن_عبيد_الله) t عندما جاءه سبعمائة ألف درهم في ليلة، وأدركت لماذا تحول حزنه إلى فرح عندما "تخلَّص" من هذه الدنيا بتوزيعها على الفقراء في نفس الليلة!!
أدركت ذلك كله .. بل إنني أدركت لماذا صار جيل الصحابة خير الناس! إن هذا لم يكن فقط لأنهم عاصروا الرسول r، بل لأنهم هم أفضل من فقه مغزى الحياة، أو قل: هم أفضل من "عَبَدَ" الله U؛ ولذلك حرصوا بصدق على البعد عن الدنيا والمال والإمارة والسلطان، ولذلك لا ترى في حياتهم تعاسة عندما يمرضون، ولا كآبة عندما يُعذَّبون، ولا يأسًا عندما يُضطهدون، ولا ندمًا عندما يفتقرون .. إن هذه كلها "فُرَص عبادة" يُسِّرت لهم فاغتنموها، فصاروا بذلك خير الناس.
إن الذي فقِه فقههم سعِد سعادتهم ولو عاش في زمن الاستضعاف! والذي غاب عنه المغزى الذي أدركوه خاب وتعس ولو ملك الدنيا بكاملها.
إنني أتوجه بهذا المقال إلى أولئك الذين يعتقدون أنهم من "البائسين" الذين حُرموا مالاً أو حُكمًا أو أمنًا أو صحة أو حبيبًا .. إنني أقول لهم: أبشروا، فقد هيأ الله لكم "فرصة عبادة"! فاغتنموها قبل أن يُرفع البلاء، وتأتي العافية، فتنسى الله، وليس لك أن تنساه .. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].
وأسأل الله U أن يفقهنا في سننه ..
وأسأله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.