وقال أيضًا بعد ذكر تمثل الصحابة بالشعر: "هذا وما أشبهه كان فعل القوم وهم مع ذلك لم يقتصروا في التنشيط للنفوس ولا الوعظ على مجرد الشعر، بل وعظوا أنفسهم بكل موعظة ولا كانوا يستحضرون لذكر الأشعار المغنيين إذ لم يكن ذلك من طلباتهم ولا كان عندهم من الغناء المستعمل في أزماننا شيء، وإنما دخل في الإسلام بعدهم حين خالط العجم المسلمين، وقد بيَّن ذلك أبو الحسن القرافي فقال: "أي الماضين من الصدر الأول حجة على من بعدهم ولم يكونوا يلحنون الأشعار ولا ينغمونها بأحسن ما يكون من النغم إلا من وجه إرسال الشعر واتصال القوافي؛ فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه كان ذلك مردودًا إلى أصل الخلقة لا يتصنعون ولا يتكلفون"، هذا ما قال فلذلك نص العلماء على كراهية ذلك المحدث، وحتى سئل مالك بن أنس -رحمه الله- عن الغناء الذي يستعمله أهل المدينة فقال: "إنما يفعله الفساق".
"بل سئل عن إنشاد الأشعار بالصوامع كما يفعله المؤذنون اليوم في الدعاء بالأسحار؟ فأجاب بأن ذلك بدعة مضافة إلى بدعة؛ لأن الدعاء بالصوامع بدعة، وإنشاد الشعر والقصائد بدعة أخرى، إذ لم يكن ذلك في زمن السلف المقتدى بهم" اهـ من الاعتصام ص202 وما بعدها.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وأما سماع القصائد لإصلاح القلوب، والاجتماع على ذلك إما نشيدًا مجردًا أو مقرونًا بالتغبير ونحوه مثل: الضرب بالقصبة على الجلود حتى يطير الغبار ومثل التصفيق ونحوه، فهذا السماع محدث في الإسلام بعد ذهاب القرون الثلاثة، وقد كرهه أعيان الأئمة، ولم يحضره أكابر الشيوخ" اهـ من مختصر الفتاوى المصرية ص592.
وبذلك أفتى العلماء المعاصرون الذين يتبعون منهج السلف
أولاً: فتوى اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "يجوز لك أن تستعيض عن هذه الأغاني بأناشيد إسلامية فيها من الحكم والمواعظ العبر ما يثير الحماس، والغيرة على الدين، ويهز العواطف الإسلامية وتفر من الشر ودواعيه؛ لتبعث نفس من يُنشدها ومن يسمعها إلى طاعة الله، وتنفر من معصيته -تعالى- وتعدي حدوده إلى الاحتماء بحمى شرعه، والجهاد في سبيله، لكن لا يتخذ من ذلك وردًا لنفسه يلتزمه، وعادة يستمر عليها؛ بل يكون ذلك في الفينة بعد الفينة عند وجود مناسبات ودواعٍ تدعو إليه كالأعراس والأسفار للجهاد ونحوه، وعند فتور الهمم لإثارة النفس، والنهوض بها إلى فعل الخير، وعند نزوع النفس إلى الشر وجموحها؛ لردعها عنه وتنفيرها منه.
وخير من ذلك أن يتخذ لنفسه حزبًا من القرآن يتلوه، ووردًا من الأذكار النبوية الثابتة، فإن ذلك أزكى للنفس وأطهر، وأقوى في شرح الصدر وطمأنينة القلب، قال الله -تعالى-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23)، وقال -سبحانه-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد:28 - 29).
- وقد كان ديدن الصحابة وشأنهم -رضي الله عنهم- العناية بالكتاب والسنة حفظًا ودراسة وعملاً، ومع ذلك كانت لهم أناشيد وحداء يترنمون به في مثل حفر الخندق وبناء المساجد وفي سيرهم إلى الجهاد، ونحو ذلك من المناسبات دون أن يجعلوها شعارهم، ويُعيروها جُل اهتمامهم وعنايتهم، لكنه مما يُروِّحون عن أنفسهم، ويهيجون به مشاعرهم.
- أما الطبل ونحوه من آلات الطرب؛ فلا يجوز استعماله مع هذه الأناشيد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- لم يفعلوا ذلك والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" اهـ نقلاً عن حكم الأناشيد ص88 - 89.
ثانيًا: فتوى الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "لا أرى أن الإنسان يتخذها سبيلاً للعظة:
أولاً: لأن أصلها موروث عن الصوفية، فإن الصوفية هم الذين جمعت أذكارهم مثل هذه الأناشيد.
¥