2. وأما قوله تعالى: (اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون) يس/ 21 ومثيلاتها من الآيات: فقد استدل بها بعض العلماء على المنع من أخذ الأجرة على تعليم القرآن، والعلم الشرعي، وأن هذا هو صفة المرسلين، وأتباعهم، والمنازعة في هذا الاستدلال حاصلة لا تُنكر، وذلك بحمل الآية على من تعيَّن عليه تبليغ الدعوة، وتعليم العلم، دون من لم يتعين عليه ذلك، كما يمكن حمل الآية وأخواتها على كراهة أخذ الأجرة على ذلك التعليم لمن كان غير محتاج، وهو ما ذهب إليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، فإنه ساق عدداً من الآيات التي تحمل معنى هذه الآية، ثم قال:
"ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة: أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء، وغيرهم: أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجاناً، من غير أخذ عوَض على ذلك، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى، ولا على تعليم العقائد، والحلال والحرام" انتهى.
" أضواء البيان " (2/ 179).
ثم قال:
"الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم -: أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية: فالأولى له ألا يأخذ عوضاً على تعليم القرآن، والعقائد، والحلال والحرام؛ للأدلة الماضية، وإن دعته الحاجة: أخذ بقدر الضرورة، من بيت مال المسلمين؛ لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم، لا من قبيل الأجرة.
والأولى لمن أغناه الله: أن يتعفف عن أخذ شيءٍ في مقابل التعليم للقرآن، والعقائد، والحلال والحرام" انتهى.
" أضواء البيان " (2/ 182).
وهذا الذي اختاره الشيخ الشنقيطي رحمه الله، قد اختاره من قبله شيخ الإسلام ابن تيمية:
فقد سئل رحمه الله عن رجل امتنع من تعليم العلم الشرعي إلا بأجرة، فهل يجوز له ذلك؟
فأجاب: "الحمد لله، أما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ليس هذا مما يخفى على أحد ممن نشأ بديار الإسلام، والصحابة والتابعون وتابعو التابعين وغيرهم من العلماء المشهورين عند الأمة بالقرآن والحديث والفقه إنما كانوا يعلمون بغير أجرة، ولم يكن فيهم من يعلم بأجرة أصلا.
(فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر) والأنبياء صلوات الله عليهم إنما كانوا يعلمون العلم بغير أجرة، كما قال نوح عليه السلام: (وما أسألكم عليه من أجر أن أجرى إلا على رب العالمين) وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم، وكذلك قال خاتم الرسل: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ) وقال: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً).
وتعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك بغير أجرة لم يتنازع العلماء في أنه عمل صالح، بل هو من فروض الكفاية، كما قال النبي في الحديث الصحيح: (بلغوا عنى ولو آية) وقال: (ليبلغ الشاهد الغائب).
وإنما تنازع العلماء في جواز الاستئجار على تعليم القرآن والحديث والفقه على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد.
إحداهما: وهو مذهب أبى حنيفة وغيره، أنه لا يجوز الاستئجار على ذلك.
والثانية: وهو قول الشافعي أنه يجوز الاستئجار.
وفيها قول ثالث في مذهب أحمد: أنه يجوز مع الحاجة دون الغنى، كما قال تعالى في ولي اليتيم: (وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ).
ويجوز أن يعطى هؤلاء من مال المسلمين على التعليم، كما يعطى الأئمة والمؤذنون والقضاة، وذلك جائز مع الحاجة.
وهل يجوز الارتزاق مع الغنى؟ على قولين للعلماء ...
ومأخذ العلماء في عدم جواز الاستئجار على هذا النفع: أن هذه الأعمال يختص أن يكون فاعلها من أهل القُرَب بتعليم القرآن والحديث والفقه والإمامة والأذان لا يجوز أن يفعله كافر، ولا يفعله إلا مسلم بخلاف النفع الذي يفعله المسلم والكافر كالبناء والخياط والنسج ونحو ذلك، وإذا فعل العمل بالأجرة لم يبق عبادة لله، فإنه يبقى مستحقا بالعوض، معمولاً لأجله، والعمل إذا عمل للعوض لم يبق عبادة كالصناعات التي تعمل بالأجرة، فمن قال: لا يجوز الاستئجار على هذه الأعمال قال: إنه لا يجوز إيقاعها على غير وجه العبادة لله، كما لا يجوز إيقاع الصلاة والصوم والقراءة على غير وجه العبادة لله، والاستئجار يخرجها عن ذلك.
ومن جوز ذلك قال: إنه نفع يصل إلى المستأجر فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر المنافع.
ومن فَرّق بين المحتاج وغيرهِ وهو أقرب قال: المحتاج إذا اكتسب بها أمكنه أن ينوي عملها لله، ويأخذ الأجرة ليستعين بها على العبادة، فإن الكسب على العيال واجب أيضا، فيؤدي الواجبات بهذا، بخلاف الغني لأنه لا يحتاج إلى الكسب، فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير الله، بل إذا كان الله قد أغناه، وهذا فرض على الكفاية، كان هو مخاطبا به، وإذا لم يقم إلا به كان ذلك واجبا عليه عينا، والله أعلم" انتهى باختصار.
"مجموع الفتاوى" (30/ 204).
وعلى هذا، فيمكن القول: إنه ليس هناك دليل من الكتاب والسنَّة ينص على تحريم أخذ الأجرة على العبادة متعدية النفع لغير فاعلها، فأما الآيات: فكما رأينا فإنها ليست نصّاً في الحكم، وفي الاستدلال بها نزاع، وأما الأحاديث: فهي ضعيفة السند، ويمكن التحقق من ذلك بالنظر فيما أحلنا عليه من تفسير القرطبي.
مع التنبيه على أن الأفضل لمن أغناه الله تعالى أن يتنزه عن أخذ شيء من متاع الدنيا مقابل بذل ما أنعم الله تعالى به عليه من العلم الشرعي.
الإسلام سؤال وجواب