[المحبة مقام معرفي كبير]
ـ[عمر الريسوني]ــــــــ[08 - 11 - 10, 08:27 م]ـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مبعوث الرحمة للعالمين
وعلى آله وصحبه ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين
قال تعالى: (أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه) الآية
ولقد قرأت في بعض الآثار (اذا جن الليل ونامت العيون وخلا كل حبيب بحبيبه وافترش أهل المحبة
أقدامهم وجرت دموعهم على خدودهم وتقطرت في محاريبهم، أشرف الجليل سبحانه وتعالى فنادى يا جبريل: بعين من تلذذ بكلامي واستراح الى ذكري واني لمطلع عليهم في خلواتهم أسمع أنينهم وأرى بكاءهم فلم لا تنادي فيهم يا جبريل - ما هذا البكاء؟ هل رأيتم حبيبا يعذب أحباءه؟) فما أعظم الله وما أجله وما أرحمه بعباده بل هو الأرحم بهم انه أرحم الراحمين فسبحان الله العظيم
ولو علم العباد قدر رحمة الله التي وسعت كل شيء لاندهشوا الى ضآلة معرفتهم بربهم فكيف وهو الودود الرؤوف الرحيم بعباده وكما جاء في الآثار (فكيف بعبادي لو قد رفعت قصورا تحار لرؤيتها الأبصار فيقولون ربنا لمن هذه القصور؟ فأقول لمن أذنب ولم يستعظمه في جنب عفوي).
وفي الحديث المروي عن عبد الله بن عمر قال:كنا نسير مع الرسول صلى الله عليه وسلم (في بعض غزواته فمر بقوم، فقال: "من القوم"؟، قالوا نحن المسلمون، وامرأة تحصب (أي توقد) بقدرها ومعها ابن لها فإذا ارتفع وهج تنحت به فأتت النبي فقالت "أنت رسول الله؟ "، قال نعم قالت "بأبي أنت وأمي أليس الله أرحم الراحمين"، قال "بلي"، قالت "إن الأم لا تلقي ولدها في النار"، فأكب رسول الله يبكي ثم رفع رأسه إليها فقال "إن الله لا يعذب من عباده إلا المارد المتمرد الذي يتمرد على الله وأبي أن يقول لا إله إلا الله" رواه ابن ماجة.
وصولك الى الله هو وصولك الى العلم به، والعبودية أن تعترف بحدود قدرتك البشرية وافتقارك
الشديد فتلجأ الى معبودك الحق القريب منك الودود الرؤوف الرحيم بك.
واذا تأملت ما حولك وأنت تصغي الى صوت حيوان أو حفيف شجر أو خرير ماء أو ترنم طائر ولا
تنعم ظل الا وجدته شاهدا بوحدانية الله دال على أنه سبحانه ليس كمثله شيء وكلما زاد تأملك اعتراك الحب، وهذا الحب من المحبة وهي ميزة الانسان وسر أودعه الله في القلوب فيبقى العبد في مراعاة سره من خواطر نفسه.
ولقد قالت رابعة العدوية يوما رحمها الله: من يدلنا على
حبيبنا؟ والمتأمل لقولها يعلم أنها كانت
في مقام الاستغراق نتيجة المحبة وهو مقام القرب، وحيرة رابعة تعني أنها تفكر في الله دون سواه
ولذا قال النوري: أريد دوام ذكره من فرط حبه.
ولعل رابعة لها مقام عال في المحبة وقدم معرفي راسخ بما علمها الله عز وجل، ولقد سألت يوما
عن المحبة فقالت: ليس للمحب وحبيبه بين وانما هو نطق عن شوق ووصف عن ذوق فمن ذاق
عرف ومن وصف فما اتصف وكيف تصف شيئا -تقصد الحبيب- أنت في حضرته غائب وبوجوده دائب وشهوده ذاهب وبصحوك منه سكران وبفراغك له ملآن وبسرورك به ولهان، فالهيبة تخرس اللسان عن الاخبار والحيرة توقف الجنان عن الاظهار والغيرة تحجب الأبصار عن الأغيار والدهشة تعقل العقول عن الاقرار، فما ثم الا دهشة دائمة وحيرة لازمة وقلوب هائمة وأسرار كاتمة وأجساد من السقم غير سالمة والمحبة بدولتها الصارمة في القلوب حاكمة.
والمتأمل في هذا القول الكبير لأهل المعرفة يخلص أنها تمكنت من المجاهدة حتى صارت لها المحبة بمثابة الوطن تجد فيها لذة قلبها وتتذوق لها حلاوة عظيمة.
وهذا أقوى دليل أن المحبة معرفة فمن يغمره الحب تكون نفسه مطمئنة في سكينة لربها فيشرق عليها الحق بنوره فيكسيها من فضله حللا زكية، وهذه المعرفة بحاجة الى صقل وتهذيب كما سنبين باذن الله تعالى في هذا الموضوع الذي له أهمية كبيرة في النقاش المثمر.
فالنفوس الشقية التي أعرضت عن الحق وغلب عليها حب الدنيا والمحسوسات المادية تجدها محجوبة عن نور الله ولا سعادة للنفوس الا بمحبة الحق، ولا يوصل الى هذه المحبة الا المعرفة
بكمال المحبوب، فالمحبة ثمرة المعرفة وتنعم بين الجمال والجلال فتأنس النفس السليمة الطباع بالجمال وتحن اليه بقدر طاقتها ولطافتها وتخضع وتنقاد له في حلل بهية.
¥